strong>رلى راشد
يوم مقتل السينمائي تيو فان غوغ قبل سنتين في أمستردام، شهدت هولندا المتسامحة هزّة حقيقية جعلتها تعيد النظر في أسطورة التعايش التي تتباهى بها. الصحافي البريطاني أيان بوروما يستعيد تلك الواقعة في كتاب، متسائلاً عن مستقبل العلاقة بين أوروبا والإسلام

تاريخ الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) 2004، يشكل مفترقاً حاسماً في هولندا. يومها جاءت الصدمة لتكشف للهولنديين حقيقة مرّة ومؤلمة، هي فشل تجربة التعايش بين أهل هذا البلد المضياف ومهاجريهم العرب والمسلمين. ورثة فولتير ضدّ أحفاد الرسول إذاً؟ هذه المقاربة التي توحي بالاخترالية بعض الشيء، هي موضوع كتاب صدر أخيراً في نيويورك ولندن عن “بينغوين بريس”، بعنوان “جريمة في أمستردام ــ موت تيو فان غوغ، وحدود التسامح”. يستعيد الكتاب اغتيال السينمائي تيو فان غوغ، على يد أصولي هولندي من أصل مغربي، بعد تحقيقه فيلماً قاسياً ينتقد الإسلام (هو الذي تميّز بمواقف عنصريّة واضحة في سنواته الأخيرة). وينطلق الصحافي والباحث أيان بوروما من تلك الحادثة، ليطرح رؤية مستقبلية سوداء: الحرب الأهلية في أوروبا واقعة لا محالة.
في “جريمة في أمستردام ــ موت تيو فان غوغ، وحدود التسامح” (بينغوين بريس)، تجاوز الصحافي والباحث أيان بوروما موضوعه، ليسأل عن مسألة التسامح في هولندا، وعن العلاقة بين أوروبا والإسلام. وقد استفز الكاتب الروائي البيروفي المعروف ماريو فارغاس يوسا، فما كان منه إلا أن نشر مقالاً في صحيفة “ايل باييس” الإسبانية مناقشاً بعض ما تضمّنه الكتاب.
يتأرجح كتاب بوروما الذي صدرت ترجمته الفرنسية بعنوان “لقد قتلوا تيو فان غوغ” (“دار فلاماريون”)، بين التقرير والبحث. الذريعة السردية هي رحلة الأكاديمي إيان بوروما نصف الهولندي ونصف البريطاني إلى موطنه الأول الذي غادره في الخامسة والعشرين. عاد الرجل إلى هولندا يسكنه همّ واحد: إعادة رسم ملابسات اغتيال تيو فان غوغ، “عقاباً” على فيلمه “الخضوع” الذي تناول فيه ــ بشكل لا يخلو من الكاريكاتوريّة ــ العنف ضد المرأة في البلدان الإسلامية. وكان المخرج الهولندي صوّر هذا الفيلم “المُسيء للإسلام”، استناداً الى شهادة أيان هيرشي علي النائبة الهولندية السابقة ذات الأصول الصوماليّة التي هربت من موطنها الأصلي وكتبت عن طريقة التعاطي مع المرأة هناك.
عمل بوروما جاهداً ليفهم الدوافع (الذاتية والموضوعيّة، الجماعية والفرديّة) التي قادت المغربي محمد بويري إلى قتل فان غوغ في إحدى أكثر المدن الأوروبيّة تسامحاً... أقلّه في الظاهر. لكن هذا لم يمنع الكاتب من الاسترسال في مواقف وأفكار تنمّ عن ضيق صدر سكان أمستردام “الأصليين” بالوافدين الجُدد. يذهب مثلاً إلى احتساب عدد المسلمين فيها الذي سيتخطّى في العام 2015 عدد المسيحيين إذا “استمرّت وتيرة الهجرة إلى هولندا على حالها”!
عاد بوروما من هولندا بمقال نشره في صحيفة “ذي نيويوركر” في كانون الثاني (يناير) 2005. ثم وسّع المقال لاحقاً ليصبح الكتاب الذي بين أيدينا. وبعدما رصد هذا الباحث في كتاباته السابقة، العلاقات الثقافية والسياسية بين الحضارة الغربيّة والشرقيّة، خلص في مؤلفه عن فان غوغ، إلى أن الكبرياء القومي الهولندي أُصيب جراء اغتيال هذا المخرج المنحدر من سلالة الفنان الكبير الذي يحمل الاسم نفسه. “فجأة، لم تعد هولندا الاستثناء المُذهل. لقد تجلّى الرابط الفتّاك بين التطرّف الديني في الشرق الأوسط، ومشاكل مُهاجرين اقتُلعوا من أرضهم ليظهروا في ضواحي أمستردام”.
يذكّر بوروما بأن هولندا بالكاد تحرّرت من قيودها الاجتماعية والدينيّة وبأنّ ثقافتها العلمانيّة، وتسامحها في مسائل الجنس والمُخدرات والـ “روك اند رول”... حديثة العهد، تعود إلى ستينيات القرن الماضي فقط. ويشير إلى أن الإسلام استحال ديانة أوروبيّة، كما فعل قبله الباحث الفرنسي أوليفيه روا المتخصص في الإسلام السياسي. لكن الأوروبيين خافوا من تأثيره “التوتاليتاري المُتحوّل”، بينما غفلوا عن تجذّر التوتاليتاريات الفعليّة في قارتهم. وفي حين تعتبر إدارة الرئيس بوش، الإسلام الراديكالي سليل النازية والشيوعيّة، يرى بوروما أن الاسلام في أوروبا يبدو مشكلة داخلية لا علاقة لها بقضايا الصراعات الدولية، وعاملاً غريباً عنها... لكنه شديد القرب في الوقت عينه. أخذ بعض النقاد على كتاب بوروما افتقاره إلى هيكليّة واضحة. وذهبوا إلى أنّ ظهور الشخصيّات فيه بدا اعتباطياً. فيما توقّف آخرون عند عنوان الكتاب الفرعي “موت تيو فان غوغ وحدود التسامح” آخذين على الكاتب أنّه أغفل التعمّق في شرح طبيعة تلك الحدود. كما يفيد هنا أن نذكّر بأن فان غوغ لفت الأنظار ــ قبل الفيلم ــ بمواقف عنصريّة مقلقة، محسوبة على اليمين المتطرّف، ما لا يبرّر طبعاً بأي شكل جريمة اغتياله البشعة.
بدا بوروما متجاسراً في طرح الأسئلة، لكنّه تركها معلّقة من دون أجوبة. هكذا، لم يردّ على سؤال يطرحه بنفسه: “أتستدعي قيم التنوير احترام القيم المُناهضة للتنوير أو محاربتها؟”. لكنه أشار فقط إلى مصادرة المحافظين لقيم التنوير بعدما ذهب تعدّد الثقافات في رأيهم “بعيداً”. عدوا تلك القيم كونيّة، لكنها كونية تخصّهم حصراً لتجذّرها في الثقافة الغربيّة. وفي هذا الإطار تحديداً، يأتي نقد فارغاس يوسا للكتاب: يثني الكاتب البيروفي على العمل الذي “يُقرأ بكونه روايةَ تشويق، على الرغم من افتقارها إلى الفانتازيا وتماسها مع الأحداث المعاصرة”. لكنه يبدي عدم موافقته على نقد بوروما لأيان هيرشي علي وأفشين إليان. هذا المنشق الإيراني المُقيم في هولندا الذي دعا المُثقفين والمشرّعين، بعد اغتيال فان غوغ، إلى مناقشة الإسلام بانفتاح، لأن التسامح الحقيقي يكمن في إمكان نقد الدين على حد قوله.
لم يرُق صاحب “المدينة والكلاب” لجوء بوروما إلى وصف هيرشي علي وإليان بـ“متطرّفي عصر التنوير”، إذ إنهما دعَوَا الإسلام إلى التأقلم مع الثقافة الأوروبية لا العكس. يكتب يوسا: “تعيش الشعوب الغربيّة في أمان. في حين تنقل لها وسائل الإعلام صوراً عن مدى سوء الأمور في خارج القمقم. لقد أفرغ الغربيون مفاهيم الحرّية وحقوق الإنسان والديموقراطية من معناها، مع أنهم يدينون لها بمستوى عيشهم وأمانهم. غرقوا مُستمتعين في الخمول وممالأة الذات، وانزعجوا من تدخّل أحد في حياتهم الراغدة”. لكنه يردف: “إذا كانت ثقافة الحرية قد رفعت التحدّي وتجاوزت التطرّف الديني، فإن الفضل في ذلك يعود إلى مواطنين “جُدد” أمثال أفشين إليان وأيان هيرشي علي. هؤلاء اختبروا فظاعات الظلاميّة الدينية والهَمجيّة السياسية، وأدركوا تماماً الاختلاف بينهما، فباتوا يدافعون عن ثقافة تبنّوها وجعلوها ثقافتهم”.
لكن بوروما يرفض اعتبار نقده للنائبة السابقة هيرشي يصبّ في خانة “المتطرّفين” الذين هدّدوها في حياتها. وقد أوضح الصحافي البريطاني / الهولندي في مقابلة لإحدى الصحف الفرنسية: “أؤيد تلك المرأة، الصومالية الأصل، الهولندية الموطن، في مناهضتها لبعض الممارسات ضد النساء في موطنها الأصلي. لكن ذلك لا يلغي كونها امرأة تخلت عن دينها في الغرب المتسامح... بعدما عاشت جزءاً من حياتها في بيئة متشدّدة. لهذا تراها تميل ــ كما الفيلسوف الفرنسي روبير ريديكير (الذي قارن التطرّف الإسلامي بالشيوعية) ــ إلى التوقف عند مشكلة الإسلام، فيما المفروض مواجهة مشكلة الإسلام السياسي. إن مواقفها تقود إلى معاداة المسلمين المُسالمين... وهم الأكثرية التي ينبغي لنا ــ تحديداً ــ أن نراهن عليها”.