strong>حسين بن حمزة
بدأ محمد بنيس الكتابة والمغرب لمّا يطرق أبواب الحداثة. في لبنان نشر قصائدة الأولى، ومن بيروت يستعد لإصدار مجموعته “هناك تبقى” (دار النهضة العربية). عند أبواب حانة “جدل بيزنطي”، استوقفْنا مؤسس “بيت الشعر المغربي”، وكان هذا الحوار

على يده ويد عدد من أقرانه السبعينيين، بدأت الحداثة الشعرية في المغرب. نشر قصائده بشكل متزامن بين المغرب ولبنان، وجاءت مجموعته الأولى “ما قبل الكلام” (1969) بلا مرجع أو أب شعري مغربي واضح. هل هذا ما جعله شاعراً مغربياً ذا نسب مشرقي؟ يجيب الشاعر المغربي محمد بنيس (1948): “منذ بداياتي، كان واضحاً لي ما هو التيار الشعري الذي يهمّني الاقتراب منه، وهو ما سمّيته “شجرة النسب الشعرية”. عندما بدأت الكتابة، لم يكن الشعر المغربي قد طرق أبواب الحداثة بعد، وهذا ما جعل نسبي الشعري مختلطاً ومكوناً من شعراء أحببتهم. أنا سعيد لأن الشعر أكسبني صداقة شعراء كبار. تعلمت كتابة قصيدتي الأولى من شعر بدر شاكر السياب الذي أعتبره حتى اليوم واحداً من أهم شعراء العالم، وتعلمت أيضاً من كتابة أدونيس الذي يمثل تجربة عميقة وغنية في الشعر العربي والإنساني عموماً. لكني، في الفترة عينها، تعلمت من بودلير ومالارميه ورامبو، وهي أسماء كبيرة قادتني في المرحلة الأولى. أعتقد أن هذا ينطبق على معظم شعراء السبعينيات سواء في المغرب أو بيروت أو بغداد والقاهرة”.
يصف بنيس علاقته بالقصيدة بأنه حاول أن ينصت إلى ما تريده الكتابة وحدها. صحيح أن قصيدته عاشت انتقالات أسلوبية، إلا أنه لم يقسرها على تجاوز نفسها من مجموعة إلى أخرى، ولم يؤخذ بفكرة أن الشاعر في النهاية يكتب ديواناً واحداً على مدار أزمنة متعاقبة. ولهذا يقول: “كانت القصيدة حاضرة في الحياة بقدر ما كانت الحياة حاضرة فيها. كانت تنصت بقدر من الجسارة لهذه الحياة، ولم يكن في إمكاني أن أمنعها من اختيار مسارها. انتقلت من فضاء إلى آخر. ذاك هو فعل القصيدة وتلك هي طاعة صاحبها”.
أصدر محمد بنيس أكثر من عشر مجموعات شعرية، ونشر “الأعمال الشعرية” في مجلدين (2002)، لكنّ شعريته هذه تجاورت مع دراسات نظرية ومساهمات نقدية، فهل أثّر انخراطه النظري والفكري في إخلاصه لقصيدته وإصغائه لشروطها ومتطلباتها؟ لا ينكر صاحب “ورقة البهاء” (1988) هذا الازدواج في تجربته: “وجدت نفسي داخل حالة شعرية صعبة في المغرب. كان الوضع متخلّفاً لا يكترث بالوعي الشعري النظري، كما يخشى المغامرة. اقتنعت منذ البداية أن الدراسة النظرية والأكاديمية ضرورية لشاعر حديث. ولأن هذه الدراسة لم تكن متوافرة في المنهج الجامعي المغربي، رحنا نبحث عن كل ما يخص النظرية الشعرية والنقد الأدبي في الأعمال والكتابات الفرنسية الجديدة وقتها. لكني لا أدري بالضبط إلى أي حد منعت هذه الجهود قصيدتي من امتلاك حريتها الكاملة”.
لكن الممارسة النظرية والثقافية جعلت من بنيس شاعراً ومحركاً ثقافياً في آن معاً؟ هل كان ذلك أشبه بالقدر لشاعر يعيش حداثته داخل تقليد مسيطر؟
لا يسمي بنيس ذلك قدراً بل نوعاً من التحدي والحاجة: “كان واضحاً أن عليّ الإسهام في خلق الشروط التي تؤمّن للقصيدة الحديثة في المغرب مكانها بين المغاربة، ويكون لها ما يمكّنها من حماية نفسها من كل العوامل التي تؤجل مشروعيتها وحريتها وطموحها. لهذا بادرت، مع مجموعة من الأصدقاء، إلى تأسيس مجلة “الثقافة الجديدة” في عام 1974 وكنت أبلغ 26 سنة يومها. استمر المشروع عشر سنوات، أصدرنا خلالها ثلاثين عدداً. بعد ذلك، وبمشاركة أصدقاء آخرين، أسست “دار توبقال” للنشر، وكان هدفنا الأساسي نشر الأعمال الشعرية المغربية التي لم تكن تجد بسهولة فرصة للنشر. ثم أسسنا “بيت الشعر المغربي” وفيه انتقلنا من ممارسة داخل أفق مغربي وعربي إلى اللقاء بالعالم مباشرة. أظن أن هذه الأفعال كلها تعبّر عن مفهومي للكتابة والالتزام بها في مجتمع كالمجتمع المغربي، وفي زمن كزمن ما بعد الاستقلال”.
الواقع أن أفعالاً كهذه لم تكن سهلة في مجتمع تقليدي يسيطر على ثقافته سياسيون ومؤسسات سياسية لا تكترث بالشأن الثقافي إلا ما يخدم مصالحها. وهذا ما دفع بنيس إلى المجاهرة برفض تبعية الثقافة للسياسة. يقول صاحب “كتاب الحب” (1995): “لقد ساعدني هذا الموقف النقدي، وساعدني الاشتغال على سؤال التخلف الثقافي في المغرب، في رؤية ما هو أوسع عربياً وعالمياً”. لكنه يؤكد أن هذه الأفعال تأتلف في فعل متكامل يتمثل في أنه لا يعتبر كتابة القصيدة وحدها كافية. ولهذا يقول: “كنت حريصاً دوماً على أن أجعل أفعالاً أخرى تصاحب القصيدة، وتفتح لها طرقاً للتكون والتحقق، لكن هذه الأفعال عرّضتني أيضاً لصراعات كبرى، وأضافت منفىً جديداً إلى المنافي التي أعيشها داخل بلدي. على كل حال، أنا من الذين يعملون في الطبقات السفلية حيث لا يرى أحد ما أفعله. ما يهمني هو أن يكون هناك فعل ما من أجل أن نعطي لحياتنا معنى أسميه “المقاومة الثقافية”. كثيراً ما أقول لنفسي: هل كل ما قمت به كان ضرورياً أم لا؟ وكثيراً ما سألت نفسي وأنا أراها تواجهني بشراسة: لِمَ لا تجلس إلى قصيدتك وحدها وتترك التخلف يعيش سعادته”؟
بعد كل هذا، هل يندم الشاعر على سيرته هذه؟ يسارع إلى القول: “أولاً دعني أقول إنّي أشك في قيمة ما قمت به في حياتي، لكني لست نادماً على شيء. قد أكون أخطأت في حق نفسي وحق قصيدتي وعائلتي، لكني لم أندم ولن أندم أبداً، ثم لا تنس أني فعلت ذلك بحريتي وقناعتي. كنت أشعر بمتعة هائلة في ذلك، حيث اللذة أكثر من الألم، والوصول أجمل من خسارات الطريق”.
أثار بنيس لغطاّ خلال الربيع الماضي، عندما استنكر تجاهل “مؤتمر قصيدة النثر” شعراء المغرب كافةً. هل هناك برأيه شرخ شعري بين المشرق والمغرب؟ يجيب منفعلاً: “إن المشرق لا يريد أن يفهم المعنى الحقيقي للعالم العربي، لأنّه لم يشفَ من عقدة المركزيّة. نظرة المركز الى الحضارة العربيّة لا تشبه تماماً نظرة الأطراف. أنا شخصياً لم يعد يهمّني هذا الأمر، لقد تجاوزت هذه الخناقات البليدة! العالم العربي سائر كله الى الخراب، فليهنأ الذين يمهدون لكل أصناف الخراب. أنا عربي على طريقتي الخاصة، وأحسّ أن العالم كله بيتي... والشعراء كلهم أصدقائي، من دون أن يطلب أحد مني أن أكون مغربياً أو مشرقياً. أريد أن أكون ضيفاً على الشعر إذا قبل بذلك. تلك هي رغبتي”.