strong> نور خالد
لم تحتجب شمس البارودي قبل أوانها، كما ظنّ كثيرون. في نهاية سبعينيات القرن الماضي، كانت سينما مصر قد قررت أن تندثر. كان الشارع قد سبق السينما إلى ذلك، بعدما ألقى بأحلام التحرر والديموقراطية من فوق برج القاهرة. حلّ الفساد واستشرى العجز ورجع المدّ الديني بابتسامة “شماتة”، استمدّها من فشل الأفكار “البديلة”. تلك الابتسامة سرعان ما تحولت إلى تقطيبة جبين صارمة ضدّ التنورة والقميص الكاشف والشعر المستعار الأصفر والبني وحتى البنفسجي. كان رجال الدين، قد تواطأوا، مرة جديدة، مع بعض دوائر السلطة، ضد... السينما. تلك الماكينة الهادرة القادرة على قولبة الأفكار والآراء، وخدمة المرحلة، و“ظروفها”. أراد تحالف الدين ــ السلطة السيطرة على كاميرا سينما مصر، بعدما فلتت منهم طوال عقدي الستينيات والسبعينيات إلى فضاءات الجسد. كان ذلك هروباً في العالم أجمع، تجسّد بإيثار الجسد، ومعانيه وفضاءاته، بوصفه “حقيقة الوجود الوحيدة”. كان حماة الجسد ومقدّسوه يخدمون مشروع تحررهم به ومنه وإليه. أمعنوا في إظهاره، لوّنوه، اخترعوا له طقوساً تقديسية وأخرى شيطانية. جرحوا الجسد وعذّبوه، لا لأنهم ينبذونه، بل كونه العجينة الوحيدة التي في مقدورهم أن يشكّلوها كما أرادوا، كلما رغبوا في التعبير عن نصر أو إحباط، عزيمة أو هزيمة، تمرد أو انسحاب.
لم تكن شمس البارودي تشكل خطورة حقيقية تجاه خطة “التحالف”. لم يكن جسدها يحمل فعل التمرد. كانت فتاة مثيرة لا أكثر ولا أقل. وباستثناء فيلمها “حمام الملاطيمي”، بدت كل الأفلام التي ظهرت فيها تدور في فلك واحد، لا يمت إلى أفكار “مجانين” الجسد. جسد البارودي كان كشفاً سطحياً. وعريها الصادم في “كفاني يا قلب” و“المجنون والحب” و“رحلة العمر”، لم يهدف إلى تمجيد الجسد بوصفه الحقيقة الوحيدة أو إحدى أدوات التحرر على مستويات الحياة كافة. لم تكن البارودي على ذلك القدر من الوعي الذي يجعلها توظف ذلك الكشف، بالطريقة عينها التي وظفته بها سعاد حسني. كان جسد البارودي يحتاج الى من يحسن ترويضه في حظيرة الأفكار “الكبيرة”، ولم يتأتّ لها ذلك. لم يكن حولها صلاح جاهين أو حسن الإمام. بقيت البارودي اللعبة المثيرة، الجسد المكشوف، لكنه الساذج: “كنت مراهقة ولا أعلم ما أفعل... أنا أصلاً لم أحب التمثيل”، قالت في إحدى مقابلاتها في ظهورها الأخير بعد اعتكاف صارم لمدة 22 سنة، ارتدت فيها النقاب. ولأنه الجسد الساذج الذي لا يحب التمثيل، كان من السهل أن يكون الضحية الأولى لذلك “التحالف”، قبل أن يتحول الى جرس إنذار في يده. أراد “التحالف” أن يقول: “لقد اهتدت أكثر الفنانات “تحرراً” (من دون ذكر شيء عن طراوة الجسد الساذج)، وندعو بالهداية للجميع”... وطلب من البارودي أن تصمت. كان عليها أن تفعل ذلك لكي يحسن “التحالف” استثمار نقابها وصمتها. لقد حمل حجابها الكثير من الأفكار التي أُريد لها ان تروج في الشارع المصري. وبدت، في ذلك الحجاب، أقوى على التأثير، والفعل، على مستوى الأفكار، مما كانت عليه حين كانت “متكشفة”. تبنّى الشيخ الشعراوي ذلك الحجاب الذي استمد قوة زهده وحدّته من قوة الانكشاف الذي كانت عليه البارودي وحدّته. سُوِّق ذلك الزهد بوصفه الخلاص الوحيد للفنانات، وفرصة الغفران عن الخطايا، فاهتدت هناء ثروت ونسرين وأزواج الثلاثة محمد العربي وحسين محيي الدين وحسن توفيق، ثم شهيرة ونورا...
قناة “ميلودي” أفلام تستعيد هذا المساء أحد أفلام البارودي “كفاني يا قلب” عند الثامنة والنصف مساء.