strong>نور خالد
هل تتذكرون “ضمير أبلة حكمت”؟ فاتن حمامة لا تتمشى فقط على كورنيش الاسكندرية في الخريف، بل تغوص في العالم السري للمعلمين والطلبة. بعد 15 سنة، تقتحم الدراما المصرية عالم الأطباء، لتقدم نسخة عربية من “ER” يبدأ عرضها منتصف الشهر المقبل على شاشة “دبي”

يسرا ولطيفة ومنى زكي وهشام سليم وعشرات غيرهم... سرير متنقل يجري في الممرات بحركة جنونية... لقطة قريبة للأفواه، كاميرا مرتبكة، صراخ، وطلب إمدادات سريعة. الأطباء في غرفة العمليات، بالزي الأخضر واللثام الأبيض، ينتظرون بمباضعهم والمقصات. ثمة قلق عند أهالي المصاب ودقات القلب تسابق زخ العرق. الممرضة تبتسم، فهي مغرومة بالطبيب. تعيش معه تجارب جنسية، وتشعر بأنه أهملها حتى باتت “ضحية رخيصة”. لكن لا وقت للعتاب: الجريح يسيل دمه، وعليها ان تعاون الطبيب بنظرة منكسرة. هذه حكاية واحدة، لكن المستشفى، ذلك العالم الذي يبدو للوهلة الأولى معقّماً وملائكياً ليس سوى فضاء كبير تختلط فيه القيم والأحاسيس المتناقضة: النبل والاسترزاق، الخبث والشفافية، الشيطنة والتفاني، الحب والبؤس، الشهوة والحرمان. هل هي مشاهد مألوفة؟ إنه المسلسل الأميركي الشهير “ER” وقد قرر أن ينطق بلغة الضاد، تحت اسم “لحظات حرجة” الذي كان من المفترض أن يعرض في رمضان الماضي. نسخة عربية يتحضر تلفزيون “دبي”، الشريك الانتاجي، لعرضها خلال الشهر المقبل، ويراهن على تحقيق “انقلاب” في مجال الدراما من خلاله. ليس السبب في “عجقة” النجوم المشاركين في العمل، ولا مهارة تعريب الأجواء الاميركية، وابتكار قصص عربية، يصبح بعدها الدم عربي المذاق، والخيانة عربية الشكل، والاشتهاء عربي التصرف، وشخوص المستشفى عربيي الخلفيات والمشاكل... الرهان هو على الصورة.
يقول مدير تلفزيون “دبي” علي الرميثي الذي يعقد قريباً مؤتمراً صحافياً في القاهرة يعلن فيه تفاصيل المسلسل، إن مئات آلاف الدولارات صُرفت على استقدام آلات حديثة في مجال التصوير: “نقدم صورة أقرب الى السينما. لقد جرى بناء مستشفى كامل خصيصاً لتصوير حلقات العمل الثلاثين التي ستقدم في شكل متصل منفصل”. أضف إلى ذلك أن عدد الكاميرات ليس عادياً، كما في الدراما التلفزيونية التقليدية. هناك أكثر من عدسة تُـــــشغّل في الوقت عـــــينه ومن أكثر من زاوية. هذا شيء من السينما: حركة الكاميرا، حيويتها، إمكانية تنقّلها بحرية، تكثيف الأحداث المتسارعة، توافر أكثر من حبكة درامية لا يضجر المشاهد ريثما “تتعقد”... ومشاركة شريف عرفة، مخرجاً ومنتجاً، هو، بحدّ ذاته، شيء كثير من السينما.
“أردنا أن نقترب من الواقع وكأن المسلسل تلفزيون واقع لا دراما”، يقول الرميثي. تصريح يضع اليد على التحدي ــ المأزق الذي يواجه الدراما التلفزيونية اليوم. الواقع صار أثقل... المشاهد مستلب من نشرات الأخبار ليلاً ونهاراً. هذه النشرات “مجّدت” الصورة التلفزيونية للواقع، وجعلتها نقطة البداية. صار المشاهد، أكثر من ذي قبل، على درجة من الوعي للمشاهدة التلفزيونية تسمح له بالاعتراض على سرد الحكايات الساذجة. الحكايات التي لا تشبه واقعاً بات مخيفاً لشدة قسوته وسطوته على الأفكار والأحاسيس. واقع “لا محالة”. هنا سقطت الدراما المصرية. ولا يمكن اليوم، في نهاية 2006 قبول “ضمير أبلة حكمت” كما قدمه أسامة أنور عكاشة منذ أكثر من عقد. هذا الأخير اصطنع واقع عالم المدرّسين. قدم محاكاة اصطدمت واقعيتها بهدف إبراز فاتن حمامة وكأنها “حلّالة المشاكل والعقد”. نسجت حبكات درامية سطحية لم تستمد من عمق الواقع بل هامشه، وعقِّدت لا لشيء إلا لتفكّها حمامة. هذه لعبة التلفزيون التي لا يمكن أن تقدم في السينما. لكن القصف الذي تمارسه صورة نشرة الأخبار طوال الوقت، انتقائياً وعشوائياً، ليس السبب الوحيد لزيادة ثقافة المشاهد “الصورية”. هناك برامج تلفزيون الواقع، المعرّب والأصيل منها: كاميرات مفتوحة على البث طوال الوقت، الفتاة في غرفتها تحاول النوم والشاب في المطبخ يقلي بيضاً. المشاهد يراهما في الوقت نفسه، وفي الكادر نفسه. الكاميرا تنقل الصورة من السقف. لا سطوة لجدران الاستوديو أو المونتاج أو ترتيب اللقطات. هذا شيء من المسرح، بالدرجة الأولى، ثم السينما بالدرجة الثانية. صدم فيلم “غودفيلد” الجمهور حين عرض في دور السينما. وجد نفسه أمام شخصيات تجسد أدوارها في قرية مفترضة: لا بيوت ولا جدران، هي مرسومة بالطباشير، كذلك الشجر والكلب وعظمته. الشخصيات لا تتوقف عن التمثيل، في وقت واحد. سيدة تصلي في الكنيسة، وجارها يغتصب نيكول كيدمان في بيته. المشاهد يتابع الحركتين في الوقت نفسه. هذا قمة لجوء السينما الى محاكاة الواقع، حيث لا هيبة للكاميرا ولا الاستوديو ولا المونتاج.
يدّعي “لحظات حرجة” الذي أسهمت في كتابته مجموعة من الكتّاب الجدد، انه سيحقق الانقلاب، انه سينقذ الدراما التلفزيونية المصرية التي تمرّ في “لحظات حرجة” من مأزقها. يتمسّح بجلباب السينما. السينما تنقذ التلفزيون، وتثبت، مرة أخرى أنها الأجرأ والأصلح لمحاكاة الواقع...