stronog>رلى راشد
عادت السرقة الأدبيّة الى الواجهة في أوروبا ... والمتّهم هذه المرّة ليس كاتباً مغموراً. إنه البريطاني أيان ماك إيوان، حائز جائزة “بوكر” (1998) الذي طالما احتفى النقاد بأسلوبه الانسيابي، وطريقته المقلقة في تصوير الطبيعة البشريّة

أفاقت الأوساط الأدبية اللندنية قبل أيام على ضجّة غير مألوفة. إنّها قضية سرقة أدبية جديدة... المثير فيها أن المتّهم هنا ليس كاتباً مغموراً، بل أحد أبرز أصوات الرواية البريطانية الذي كاد ينال للمرة الثانية جائزة “بوكر” المرموقة... إنه أيان ماك إيوان، انهالت عليه أخيراً الاتهامات بالسرقة من الروائية البريطانية لوسيلا أندروز التي ماتت أخيراً عن 86 عاماً. صحيح أنّ الاتهامات بالسرقة الفكرية باتت موضة رائجة في عالم الأدب، ولن يشكّل صاحب “السبت” (2005) الاستثناء على ما يبدو. الا أن اتهام ماك إيوان بـ“استعارة” عناصر سرديّة من كتاب لوسيلا أندروز لكي ينجز روايته “تكفير” Atonement التي كادت تفوز بجائزة “بوكر” الأدبية قبل أربع سنوات، ليس مسألة عاديّة، ولا متوقّعة! القضية تقض اليوم مضجع الكتاب والنقاد والاختصاصيين، وقد أسالت الكثير من الحبر في الصحف ... وولّدت بدورها مفاجآت أخرى لا تقلّ أهميّة عنها ... ليس أقلّها خروج “كاتب الظلّ” توماس بينتشون من عزلته الطويلة للدفاع عن زميله في الضفة الأخرى للأطلسي.
لطالما احتفى النقاد بأعمال ماك إيوان الانسيابية في أسلوبها والمقلقة في مقاربتها الطبيعة البشرية. فيما ضحيّته المفترضة، لوسيلا أندروز، الممرضة السابقة وعميدة “أدب المستشفى الرومنسي”، نسيها النقاد في خانة الأدب الدوني الذي لم يرقَ يوماً الى مستوى التكريس، على رغم نجاحها تجارياً. وبعد شهرين على وفاتها فقط، ها هي الروائية البريطانية تعود لتنتقم لنفسها. إذ نشرت وكيلتها فانيسا هولت، في صحيفة “ذي مايل” بياناً بدا تنويعاً شخصيّاً على مقال إميل زولا الشهير “إنّي أَتّهم”، اتهمت فيه ماك ايوان بالاستيلاء في روايته “تكفير” التي يتم تحويلها الى فيلم حالياً، على شخصيّات وأحداث وردت في سيرة اندروز الذاتية “لا وقت للرومانسية” (1977). وتحدّثت هولت عن مجالات تقاطع بين الكتابين، قد تصلح أدلة لإدانته، إن لجهة الخيار الكرونولوجي المواكب للانسحاب من مدينة دانكيرك الفرنسيّة، إبّان الحرب العالمية الثانية، أو لجهة وصف أساليب العلاج وطريقة استحمام المرضى آنذاك. في رواية ماك إيوان “تكفير” (بمعنى التكفير عن الذنوب) ، كما في سيرة اندروز، نقع على صداقات بين ممرضات شابات، وعلى شخصية الرئيسة التي تتوق الى امتهان الكتابة وتترقّب بقلق ردود الناشرين.
في عاصمة الضباب التي لطالما راقها التلصّص على خصوصيات الكتّاب، وسرد تفاصيل حياتهم “الدسمة”، كبرت كرة الثلج شيئاً فشيئاً، وخصوصاً انّ شبهات حامت حول ماك إيوان قبل ذلك، عندما نشر “حديقة الإسمنت” (1978) و“رفاهية الغرباء” (1981)... . استعادت “ذي تايمز أوف لندن” اتهامات هولت، وتبعتها “تايم” و“فاينانشيل تايمز” و“أوبسورفر”. وسط هذه الزوبعة، اضطر ماك إيوان الى تبرير نفسه. فنشر مقالاً تصدّر “ذي غارديان”، أعاد فيه رسم الخطّ الفاصل بين السرقة الفكريّة والاستعانة بتفاصيل بحثيّة خَبَريّة. دافع عن نفسه، مذكراً انه أدرج كتاب اندروز ــ من بين كتب أخرى ــ في لائحة مراجع الرواية. وأضاف أنّه عبّر علناً، وفي أكثر من مناسبة، عن امتنانه لهذه السيرة التي أفادته كثيراً، ليخلص الى القول “إستوحيت؟ أجل. لكن هل نسخت عن كاتب آخر؟ كلا”.
الا أن العاصفة لم تستكن. الاتهامات الموجّهة إلى صاحب “بوكر” عن رواية “أمستردام” (1998)، تحوّلت قضيّة رأي ... ما لبثت أن هبّت للدفاع عن ماك إيوان ــ في مشهد تضامني غير مألوف ــ قامات أدبيّة مثل كازويو ايشيغورو، ومارتن إيميس، وجون ابدايك، ومارغريت اتوود، وزادي سميث. كتب هؤلاء الى الصحف، احتجاجاً على ما يواجهه زميلهم. والتقوا عند سؤال واحد: “إذا كانت تلك الدلائل الواهية ضدّ صاحب “السبت” كافية لإدانته، فماذا عنّا إذاً؟ وماذا عن تولستوي؟ وماذا عن شكسبير؟”. واكتملت صورة الدعم مع خروج الروائي الأميركي توماس بينتشون عن صمته.
انضمّ الكاتب المُتواري خلف سور حديقته السرّية، الى قافلة المدافعين عن ماك إيوان. وبينتشون ليس شخصيّة أدبيّة تقليدية... أحدث صورة له تعود الى بداية الخمسينيات عندما صادفته كاميرا CNN في مانهاتن وصوّرته. لم يهدأ روعه يومذاك حتى تعهّدت المحطة عدم بث الشريط. هذا الانطوائي الغيور على خصوصيّته الذي يحترف فن العزلة، بات في أذهان الناس صورة افتراضيّة. لهذا السبب ربما، لم يُفاجأوا يوم شاهدوه في إحدى حلقات الرسوم المتحرّكة “ذي سيمبسون”، شخصيّة كرتونيّة تضع كيساً ورقيّاً على رأسها. لم يتردّد بينتشون صاحب “قوس قزح الجاذبيّة” في بعث رسالة دعم لماك ايوان نشرتها “دايلي تلغراف” ثم “ذي نيويورك تايمز”، شبّه فيها الكتّاب بقرود الشامبانزي. قال انهم يميلون طبيعيّاً الى موسيقى اللغة الإنكليزية التي ورثوها. وأضاف أنّ “اكتشاف أي منهم لتفصيل لافت خلال أبحاثه، واستثماره في قصة ما، لا يعدّ تصرّفاً إجرامياً.. بل يندرج في صلب عمله ككاتب”.
هل نعدّ ما أقدم عليه ماك ايوان سرقة أم استدانة؟ لعل الجواب يكمن في معادلة الشاعر الأميركي تي. أس. إليوت الذي قال يوماً “الشاعر غير الناضج يقلّد، أمّا الشاعر الناضج فيسرق”!