strong>حسين بن حمزة
ينتمي كتاب “هرطقات” (دار الساقي) لجورج طرابيشي إلى ما يُسمى بنقد النقد، فهو يحتوي على مقالات تتناول ظواهر ومفاهيم سائدة في الثقافة العربية. هذا ليس غريباً على طرابيشي الذي يبدو كأن نقد النقد بات اختصاصه، فقد سبق له أن نشر تحت هذا العنوان أربعة كتب في نقد مشروع “نقد العقل العربي” لمحمد عابد الجابري. وفي السياق عينه، أصدر كتابه “ازدواجية العقل” (2005) وهو دراسة تحليلية نفسية لكتابات حسن حنفي.
وقد سبقت هذا كله دراستان شاملتان هما “المثقفون العرب والتراث” (1991) و“مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة” (1993)، أخضع فيهما طرابيشي أبحاث عدد من المفكرين العرب على سرير التحليل النفسي والفلسفي.
وإذا تذكرنا ردّ الجابري على طرابيشي، حين قال إنه مسيحي ولا يحق له الخوض في شؤون الثقافة العربية والإسلامية، فسيتبدّى لنا حجم البؤس الذي يتخبط فيه الفكر العربي! هذا يعني، بغض النظر عن الطريقة التي يمكن أن نقرأ بها عبارة الجابري تلك، أن طرابيشي أثبت ــ من دون أن يتعمّد ذلك ــ أحقية مجهوداته النقدية، والحاجة الماسة إلى إثارة هذا النوع من الأسئلة. إنّها أسئلة تعيد موضوعات الفكر العربي إلى دائرة النقد والسجال الضروريين لأي ثقافة تطمح أن تكون حيوية ومتجددة. يستخدم طرابيشي الممارسة النقدية نفسها في إصداره الجديد. لكن تنوع موضوعات الكتاب يجعل جولته النقدية متنوعة بدورها، فلا نجد فيها تركيزاً على موضوع واحد. صحيح أنه يستحضر الجابري وحنفي ومحمد جابر الأنصاري وسواهم، لكن الجهد الحقيقي الأكبر ينصبّ على إثارة أسئلة ملحة عن مفاهيم وموضوعات، وليس عن مشاريع فكرية خاصة بمفكر أو باحث عربي معين.
طرابيشي يرى أن أسئلته هذه هي هرطقات، ذلك أن المقالات المدرجة في الكتاب تخرج في مضمونها عن الدروب المطروقة، معتبراً أن الهرطقة هي أحد السبل القليلة المتبقية للمقاومة، في زمن سيادة الأصوليات والارتداد العربي – والإسلامي بشكل عام – نحو قرون وسطى جديدة.
هكذا نقرأ عن إشكالية الديموقراطية في العالم العربي، وبذور العلمانية في الإسلام... وتساؤلات حول طبيعة “العلمانية”: أهي مسألة دينية أم سياسية؟ وتركيا الحالية بين العلمانية وإعادة الأسلمة، ومسألة الترجمة... ونجد أيضاً دراستين في رواية “رحلة ابن فطومة” لنجيب محفوظ، ورواية “أصوات” لسليمان فياض. وفيهما يعود طرابيشي إلى جهود أدبية سابقة له في هذا المنحى، إنما من وجهة نظر أكثر راهنية... وتتلاءم مع ممارسته النقدية التي تمزج بين السياسة والفلسفة والتحليل النفسي.