تونس ــ بيار أبي صعب
فيلم الجزائري رشيد بوشارب «البلديّون» كان له وقع الصاعقة في تونس، على جمهور «أيّام قرطاج السينمائيّة» في افتتاح المهرجان الذي أطفأ هذا العام شمعته الأربعين. رفع فريد بوغدير الستارة عن الدورة العشرين التي تكرّم رموزاً عربية وافريقية، وتخبئ لنا بعض المفاجآت المحليّة مع أفلام الناصر خمير ونوري بوزيد والفاضل الجعايبي وآخرين

درج الـ“كوليزيه” لم يكن صعوده سهلاً مساء أول من أمس، في العاصمة التونسيّة. والسجادة الحمراء لم يرها أحد من شدّة الزحام. على جادة الحبيب بورقيبة، عند أبواب الصالة الشهيرة التي كانت تتهيأ لإطلاق الدورة العشرين من “أيام قرطاج السينمائيّة”، وقفت حارسات الهيكل... فتيات فاتنات يشبهن عارضات الأزياء. لا شك في أن ادارة المهرجان لجأت الى خدماتهن من طريق “وكالة مضيفات”. هذا البلد للمرأة فيه موقع الصدارة، وللغواية فيه مكانة خاصة، والمشهد بحدّ ذاته مثير للانتباه: في الداخل كل هذه الفتنة، وفي الخارج على الشارع العام، تكاثر عدد المحجبات، قياساً بزيارتنا الماضية قبل سنة. ولعل المسافة بين مضيفاتنا في الداخل، وبنات الشعب في الخارج تختصر اللحظة الراهنة على الأرجح، وهي تتجاوز بلد الطاهر حدّاد، الى العالم العربي الغارق في زمن القهر السياسي والاقتصادي والحضاري، القهر الانساني والوجودي أيضاً. ها نحن في صلب السينما والمسرح. هذا القهر تناوله الفاضل الجعايبي في مسرحيّته السابقة “جنون” التي حوّلها إلى شريط سينمائي، سيقدم المهرجان عرضه الأوّل أخيراً، بعد انتظار سنتين! والخيارات الراديكالية (الدينيّة) في زمن الأزمة هي أيضاً محور مسرحية الجعايبي وبكّار الجديدة “خمسون” التي لم تجد بعد طريقها إلى العرض في تونس. ونترقّب أيضاً بشوق شريط نوري بوزيد الجديد “الفيلم الأخير” مساء غد الثلاثاء، وفيه يتناول صاحب “ريح السدّ” بطريقته الخاصة (جداً؟) قضيّة العمليات الانتحاريّة، أو العمليات الاستشهاديّة إذا فضلنا... على درج الـ“كوليزيه” انتظرنا طويلاً. نسبة الشباب واضحة بين الجمهور المتدافع لحضور افتتاح “أيام قرطاج”. هؤلاء يتواصلون بالفرنسية في ما بينهم، ويبدون معنيين بالفنّ السابع. نلمس ذلك من اللغة والمفردات والإحالات في أحاديثهم. أي مستقبل ينتظرهم؟ قبل أربعين سنة في المكان نفسه تقريباً، تجمّع بعض هواة السينما ــ أو بالأحرى مناضلو “سينما الهواة” ونوادي السينما ــ ومعهم نقّاد ومخرجون شباب يتقدّمهم الطار شريعة والمنصف بن عامر وآخرون. أطلق هؤلاء أوّل تظاهرة من نوعها عربياً وافريقياً... كان رهانها ولا يزال (تعقد مرّة كل سنتين) الدفاع عن سينما الجنوب، وسينما العالم الثالث. ومنها انطلقت أسماء عدّة ــ عثمان صمبين، ويوسف شاهين، وميشيل خليفي... ــ لتحقق مكانتها عالمياً. ولولا أن مدير هذه الدورة، السينمائي فريد بوغدير، أشار بطريقة عابرة إلى الطاهر شريعة (في معرض تقديم لجنة تحكيم مسابقة أفلام الفيديو)، لظن الوافدون الجدد إلى المهرجان، ممن لا يعرفون تاريخه ورموزه، أنّه صنيع مجموعة إداريين وبيروقراطيين غامضين... في وزارة الثقافة.
أين نحن اليوم من رهان المؤسسين وطموحاتهم؟ السؤال على كل شفة ولسان في تونس. في شكل أشمل: ما هو مستقبل سينما الجنوب، في ضوء التحديات الجديدة المطروحة على الفنّ السابع؟ السؤال طرحه مقدّم الاحتفال الممثل رؤوف بن عمر، مذكّراً بأن الصورة الرقمية التي يبثّها الانترنت ستغيّر كثيراً من المعادلات. هل ستكون التحولات التقنية لمصلحة السينما في هذا الجزء (المنحوس) من العالم؟ أم ستتسع الهوّة المعرفية والثقافيّة والتقنية بين الشمال والجنوب؟ حتّى الآن ما زالت سينما الجنوب تقاوم، على رغم الظروف المادية والتقنية والثقافيّة والسياسيّة الصعبة. ثلاثة أفلام تونسية جديدة يقدمها المهرجان في المسابقة الرسميّة: إضافة إلى بوزيد، هناك الناصر خمير في “بابا عزيز” الذي يعرض قريباً في عشرات الصالات الفرنسيّة، والجيلاني سعدي في “عرس الذيب”. تجربتان من لبنان قابلتان للنقاش، ولكن... “البوسطة” فيلم الـ ١٤٠ مشاهداً في لبنان، أنتجه فيليب عرقتنجي بتمويل محلي صرف (من دون أي دعم أوروبي)، وحقق من خلاله نجاحاً تجارياً مفاجئاً... بغض النظر عن التنازلات الجمالية والفكرية التي يقدّمها. والمستغرب أن كلّ الناس في تونس من المنظمين إلى المشاهد العادي، مروراً بالنقاد وبالسينمائيين الضيوف، يعتقدون أن “البوسطة” هو فيلم لفيليب عرقتنجي و... نادين لبكي! فيما الأخيرة اقتصرت مشاركتها في العمل على التمثيل.
من لبنان أيضاً تطلّ جوسلين صعب مع “دني”، فيلم مصري ــ فرنسي ــ لبناني إشكالي هو الآخر لجهة علاقته بالواقع. والفيلم الذي كان من المتوقع أن ينزل الى ١٧ صالة مصرية الأربعاء الماضي سحب من التوزيع في اللحظة الأخيرة لأن منتجه لم يدفع للنقابات الفنية المصرية مستحقاتها (٢٠ ألف دولار). وفي اعتقادنا أن فيلم غسان سلهب “أطلال” كان الأجدر بتمثيل السينما اللبنانية البديلة!
من الأعمال التي ننتظرها في تونس أيضاً: فيلم رشيد مشهراوي “انتظار” (فلسطين)، وسمير ذكرى “علاقات عامة” (سوريا)، ومحمد مصطفى “أوقات فراغ” (مصر)، وجميلة صحراوي “بركات” (الجزائر)، ومحمد الدراجي “أحلام” (العراق)، وداوود أولاد صيّاد “طرفاية باب البحر” (المغرب). فيما لا نفهم ماذا جاء يفعل في المسابقة الرسميّة فيلم عبد الرحمن سيساكو “باماكو” الذي سبق أن عرض في صالات ومهرجانات العالم أجمع. أهي الحاجة الى برمجة أفلام افريقية بأي ثمن لتحقيق هدف أساسي من أهداف المهرجان؟
هكذا فوجئنا أيضاً في حفلة الافتتاح بصورة الشاعر السنغالي الكبير ليوبولد سيدار سنغور على الشاشة وراء مقدمي الأمسية ومدير المهرجان، إلى جانب صورة نجيب محفوظ: كانت الأيام قد أعلنت عن تكريم “محفوظ السينمائي” هذه الدورة لكنّها لم تأت على ذكر شاعر “الزنوجة” الذي لا علاقة مباشرة له بالفنّ السابع أساساً. و“الشاشة” التي أشرنا إليها، احتلّت مكانة مهمّة في حفلة الافتتاح التي سبقت عرض فيلم رشيد بوشارب. بثّت عليها صور الحاضرين في الصالة والوافدين إليها تمهيداً لانطلاق السهرة. وعرض عليها شريط لأبرز محطات الدورات الماضية وأفلامها. ثم وقف الممثل رؤوف بن عمر مذكراً بدور تونس عند مفترق الطرق بين افريقيا والعالم العربي وأوروبا والمتوسّط. إلى جانبه، وقفت زميلته فرح بن رجب متوجهة الى مشاهدي التلفزة التونسيّة التي كانت تبث الحدث مباشرة على الهواء. انعكست صورتاهما عملاقتين على الشاشة خلفهما، كما في الاحتفالات الضخمة التي تتسع لعشرين ألف مشاهد وما فوق. كل شيء كان حاضراً لتأكيد أجواء العيد الأربعين.
وزير الثقافة محمد العزيز ابن عاشور كتب اسمه بأحرف ضخمة تحت صورته، حين اعتلى الخشبة مفتتحاً الدورة “باسم الله”، مضيفاً: “عاشت السينما. عاش الحوار بين الحضارات والتنوّع الثقافي”. بعدها اعتلى فريد بوغدير بخفة دمه الأسطورية الخشبة، مقدماً الضيوف والمكرمين وأعضاء لجنة التحكيم. ولكن لسبب غامض لم يؤت مرّة على ذكر يسري نصر الله الذي تكرّمه الدورة وتعرض كلّ أفلامه. ضيوف الشرف كثر هذا العام. لم يكن بينهم نور الشريف وعبد الرحمن سيساكو كما أعلن. لكنّ خالد أبو النجا كان هنا، وصفاء أبو السعود، وكذلك المنتج التونسي العالمي طارق بن عمّار ودانييلا لمبروزو، المخرج السوري محمد ملص و... نيكول سابا أيضاً. وطبعاً نجمة الشرف بامتياز الممثلة الايطالية أورنيلا موتي. اعتلت الخشبة وقالت إنّها سعيدة بوجودها هنا، تشعر بأنّها في بيتها. صفّق الجمهور طويلاً. وقدم بوغدير أعضاء لجنة التحكيم الدوليّة الذين أُجلسوا بطريقة غريبة بعض الشيء على منصّة مرتفعة جداً ومواربة للصالة الى يمين الخشبة، كأنّهم آلهة المسرح الإغريقي هبطوا إلينا من عل عبر الـ“إكس ماكينا”.
بدا إلياس خوري، رئيس اللجنة، محشوراً في بذلته الضيقة وربطة عنقه، بين الممثلة التونسية هند صبري والممثلة البوركينا فاسيّة “الأميرة” فانتا ريخينا ناكرو. هند صبري ــ مثل نيكول سابا ــ تعتبر نموذجاً لـ“الحريّة الجنسيّة” التي ما زال في وسع تونس ولبنان تصديرها الى مصر والعرب، مع فارق أن الأولى موهوبة حقاً إلى جانب جرأتها. وبين أعضاء اللجنة الآخرين المخرج المغربي محمد العسلي ومدير التصوير المصري رمسيس مرزوق، وسيرج سوبزنسكي مدير تظاهرة “كل سينمات العالم” ضمن “مهرجان كان” الذي صدمت مواقفه خلال العدوان الاسرائيلي الأخير على لبنان الكثير من أصدقائه العرب. وأخيراً جاء الممثل سامي ناصري أحد أبطال فيلم رشيد بوشارب Les Indigènes الذين فازوا بجائزة أفضل ممثل في مهرجان “كان” الأخير. جاء وحده، من دون برنار بلانكان ورشدي زم وسامي بوعجيلة وجمال الدبّوز... ليقدّم لنا هذا الفيلم القوي والمتقن والجارح.
“البلديون” (أو “الأهالي” حسب مهرجان قرطاج، أو «السكان الأصليون») عمل يحرّك السكين في جراح الذاكرة الفرنسية والعلاقات العربية ــ الفرنسيّة. إذ يستعيد قصّة مجندين عرب ــ من افريقيا الشمالية ــ في جيش فرنسا الحرّة الذي حارب الاحتلال الألماني بقيادة الجنرال ديغول. هؤلاء المجندون الذين يقدّر عددهم بـ١٣٠ ألفاً كانوا “لحماً للمدافع”، ودافعوا ببسالة عن فرنسا التي لم تكن بلدهم... لكنّ الأم الحنون نسيتهم تماماً بعد التحرير. نسيتهم على مستوى التعويضات والحقوق أولاً، لكن النسيان الأهمّ سياسي. فنادراً ما ارتقى هؤلاء “البلديّون” أو أبناؤهم في الهرم الوظيفي والسياسي والاجتماعي. ويكتسب الفيلم أهمية خاصة في مناخ تصاعد العنصريّة ضدّ المهاجرين العرب الذين انتفض أبناؤهم في الضواحي الفرنسية قبل سنة ليقولوا إن بلدهم يضيق بهم... بل لا يكاد يتسع لهم!
بعدما أضيئت صالة الـ“كوليزيه” ليلة السبت، بدا الجمهور صامتاً وقد وقع عليه الفيلم كالصاعقة، وأعاده الى الواقع السياسي المؤلم. إنّه الفنّ لحظة تقاطعه بالسياسة... في “أيّام قرطاج”.