strong>نور خالد
خرج تامر حسني من السجن مباشرةً الى مسرح احتفالات «نصر أكتوبر» ليغني أمام الرئيس المصري. ارتدى الشباب لأجله قمصاناً كتب عليها: «بنحبك يا تامر». كل هذا بفضل ماكينة إعلامية أدركت كيف تجعل من هذا المغني ضحية غُفرت لها ذنوبها كلها

طوال الأشهر الماضية، شغلنا المغني تامر حسني طويلاً بحدوتة سجنه، بسبب تهرّبه من أداء الخدمة العسكرية. ومذ غنى وائل كفوري أغنيته “أنا رايح بكرة عالجيش” مطلع التسعينيات، لم يحدث أن تلونت صفحات المجلات الفنية بألوان البيج والبني والأخضر، كما حدث في حالة حسني. هذا الشاب أصبح طبقاً يومياً أدمنته الصحافة: خبر اعتقاله، دعايات ألبومه التي لم تتوقف طوال فترة سجنه، تصريحات مدير أعماله نصر محروس و“خططه لمواجهة الأزمة”، مدة العقوبة، صور التجمعات الجماهيرية في ميدان القاهرة (كان في إمكان حماستها الدافقة أن تودي الى شعارات من قبيل: “العدالة لتامر حسني” أو “للتضامن مع تامر حسني المعتقل في... الرجاء التصويت على: www.tamerhosny.com”).
لكنّ الأهم من كل ذلك، نص الرسالة التي بعث بها صاحب “عينيّ بتحبك” من سجنه: “من فرد مظلوم ضحية نصاب غرر به... أقدم اعتذاري إلى جميع السادة المسؤولين... وإلى جمهوري الحبيب وإلى كل من يهمه الأمر، بصفتي ابناً من أبنائكم ولست مطرباً سوف أشرح لكم جميع الحقائق وذلك بعد أن أوقف الله عز وجل الحكم، وظهرت عدالة السماء”. وفي نص الرسالة التي يصل عدد كلماتها الى 682، يشدد حسني على الخديعة التي تعرض لها، وتقديسه تراب الوطن... وماذا؟ “عشت طوال حياتي بلا أب، لذلك لا أملك القدرة على كشف الخداع والمحتالين(!)”.
في المحصلة، خرج حسني من الزنزانة الى مسرح احتفالات “نصر أكتوبر” ليغني أمام رئيس البلاد، على رغم “غضب” بعض الصحافة الفنية في مصر. كسب الشرعية التي أكدت على غفران “خطيئته”، وتالياً براءته، بعدما اشتغلت ماكينة العلاقات العامة والصحافة “الصديقة” طوال فترة أسابيع السجن، لتصويره في دور الضحية الذي يخرج لأجله الشباب في وسط القاهرة بقمصان قطنية كتب عليها: “بنحبك يا تامر”!
ولكن لماذا ركزت تلك الماكينة على تسويق صورة حسني الانسان و“ليس المطرب” كما قال؟ في العادة، يتخذ الجمهور من الفنان مثالاً يتماهى به، وينأى به عن الخطأ والخطيئة. ينزهه عما يقترفه هو، كإنسان عادي، من أفعال مدنسة. لذلك أُنزل حسني فوراً من مرتبة “قداسة الفنان” الى “عادية البشر”، طمعاً بغفران مضمون. فالبشر يغفرون للبشر أمثالهم، وليس للقديسين. ولم تتردد الماكينة في الإفادة من المرحوم “أبي تامر” لمزيد من تأكيد تلك العادية.
لم يحترق حسني في زنزانته. خرج أقوى. سانده تعاطف الناس مع قضيته. إن كل شاب مصري، في أعماقه، رافض للخدمة العسكرية، ناقم على قانون الطوارىء وظلم البلاد. صار حسني، الهارب من الخدمة، حتى لو أبى هو أن يقر بذلك، مثالاً عاطفياً لآلاف الشباب المصري الراغب في التمرد على الوضع القائم... و“الخروج من الخدمة”! حتى أولئك البسطاء الذين حقدوا على المغني لقدرته على ذلك الهروب ــ التمرد، في وقت عجزوا فيه عن عمل مماثل، وهم ممن يشكلون غالبية جمهور “شرائط الكاسيت”، لم يتأخر حسني عن الاستحواذ على عاطفتهم بواسطة... “رسالة من خلف القضبان”!
تلك الماكينة، بالتأكيد، كانت العنصر المفقود في حكايات مماثلة لفنانين مصريين. تداخل السياسي بالأمني، فكانت النتيجة أحكاماً طويلة، حملت رائحة المخدرات، وسجن بموجبها كل من مجدي وهبة وماجدة الخطيب وسعيد صالح. ربما اختلفت حيثيات كل قضية، إلا ان المشترك هو نبذ الجمهور هؤلاء الممثلين الذين أحرقهم السجن. مات وهبة، بعد خروجه بأيام قليلة، نتيجة الحسرة (ربما حسرة تخلّي الجمهور عنه)، فيما تراجعت مكانة صالح في شكل ملحوظ. وكان على الخطيب ان “تناضل” لاستعادة موقعها كنجمة أولى (كما كانت قبل السجن)، فاحتاجت الى سنوات كثيرة حتى يعاود الجمهور تقبّلها. لكنّ الشيب كان قد غزا مفرقها، فتحولت صورتها من اللعوب “دلال المصرية” الى العجوز “المجنونة” في “يا دنيا يا غرامي”.
لم يغفر الجمهور أيضاً للنجوم الكبار، وبليغ حمدي الذي قضى سنوات البؤس والحرمان في “إقامة جبرية”، لم تفرضها أجهزة الاستخبارات فحسب، بل جمهور بليغ نفسه الذي كسّر صورته بعدما اتهم بتحريض إحدى الفتيات على الانتحار من نافذة شقته. ولم تخدم الماكينة عينها ممثلة التلفزيون وفاء مكي التي أحرقت جسد خادمتها بالسجائر فأحرقها الجمهور الى حد... النسيان!