محمد رضا
«مهرجان بيروت السينمائي الدولي» اختار ضيفاً على درجة من الخصوصية والفرادة لافتتاح دورته السابعة، بعد غد الأربعاء في قصر اليونيسكو، تحت شعار «مارسوا السينما لا الحرب». هذا الضيف ليس إلا المخرج الاسباني بيدرو ألمودوفار الذي يبدأ المهرجان بآخر أفلامه “فولفير” Volver (عودة). أما «عمارة يعقوبيان» لمروان حامد، فسيكون مسك الختام، مساء الأربعاء المقبل 11 تشرين الأوّل، بعد أسبوع من العروض نشاهد خلالها 20 عملاً، معظمها يُعرض للمرة الأولى في المنطقة.
وهناك علاقة أخرى، خفيّة، بين Volver و«عمارة يعقوبيان»... هي الأوسكار. إذا ترشّح الفيلم المصري لـ«أوسكار أفضل فيلم أجنبي» كما يأمل منتجه عماد الدين أديب، فإن حظّه في بلوغ التصفيات النهائية سيكون محدوداً. أما إذا نجح في ذلك، فان الحصول على جائزة الأوسكار أمر بالغ الصعوبة: صحيح أنّه ليس فيلماً سياسياً، كما هي الحال مع «الجنّة الآن»، وهو أوّل فيلم عربي يقطع الشوط كلّه وصولاً الى الترشيحات الرسمية (بعد فوزه فعلياً بجائزة «غولدن غلوب»)، لكن «عمارة يعقوبيان» وغيره من الأفلام ستواجه خصماً عنيداً ممثّلاً بالمخرج الاسباني بيدرو ألمودوفار وفيلمه الجديد «فولفير» Volver (عودة).
يروي المخرج الاسباني في «عودة» الذي يشهد عودة الممثلة بينيلوبي كروز، قصة والدة (كارمن ماورا التي كانت أصغر سناً من بينيلوبي كروز عندما عملت مع ألمودوفار في السبعينيات)، تعود من الموت. ثم نكتشف أنها لم تمت، بل كانت مختبئة، إذ ليست هي من قضت مع زوجها في الحريق بل عشيقته... وأنها هي التي أشعلت النار انتقاماً من خيانة زوجها. تبدأ القصة من المقبرة حيث يظهر المشهد الأول ابنتها ريموندا (بينيلوبي كروز) وهي تنظّف مقبرة والدتها، بينما تهبّ رياح يُقال إنها تصيب نساء القرية بمسّ، فيعتقدن أن موتاهنّ سيعودون. يشكّل الفيلم حلقة في سلسلة أفلام المودوفار المستوحاة من قناعته بأن العلاقات الثنائية بين البشر هي نتيجة غرائز وليست ثمار حب.
الغريزة عنده، من «ماتادور» (1986) و«متاهة العاطفة» (1982) الى «نساء على حافة الانهيار العصبي» (1988)، تحلّ الغريزة مكان الحب غالباً. وفيلم «فولفير» الرجل فيه خائن أو سيئ على الدوام... ونساؤه وحيدات ومتعاونات وشديدات الأواصر. الرجل غير موجود إلا ميتاً. بالنسبة الى ألمودوفار، فرص النجاح شبه معدومة في الحب بين رجل وامرأة، وكل علاقة زوجية محكومة سلفاً بالفشل. وأعمال هذا المخرج الذي يغرد خارج السرب تتجاوز كل الأفكار التقليدية والأعراف: من الأسرة، مروراً بالدين وانتهاءً بالدولة... من دون أن ننسى السينما. أفلامه تسجل الفرد من السلطة بكل رموزها وتجلياتها، وتتميّز برومانسية تجاور الواقعية, بكوميديا تقارب السوداوية.
منذ فيلمه الأول «بيبي، لوسي، بوم» (1980) قدم بيدرو ألمودوفار سخرية جنسية فاقعة، تصطدم بالتقاليد والأعراف. وخطّ لنفسه منهجاً يتكرر في معظم ما أنجزه من أعمال، وصولاً الى فيلم «تربية سيئة» (2004) الذي سدد فيه اصبع الاتهام الى المؤسسة الكنسية، كما فعل قبله سلفه الاسباني السوريالي لوي بونِيل في العديد من أفلامه. بعد «عادات غامضة» (1984) خفف ألمودوفار من حدّة أسلوبه وأنجز أفلاماً درامية جادة، ذات مواضيع متشابكة. هذا النهج الجاد امتدّ أيضاً الى فيلمه اللاحق «ماذا فعلت لكي أستحق هذا؟» (1984)، مكرّساً اهتمام المودوفار بالمرأة، ولاحقاً بالمرأة العاملة، الفاشلة، المنهكة من حياتها الزوجية وحياة المدينة غير المجدية.
في فيلمه «ماتادور» (1986) الذي أدّى بطولته أنطونيو بانديراس (قبل أن يصبح نجماً هوليوودياً)، تناول المودوفار الوجوه المختلفة للرغبة. وتوالت أفلامه مع بانديراس: «نساء على حافة الانهيار العصبي» (1988) و«قيّدني جيداً» (1990) التي عزّزت موقع المودوفار كـ«مخرج المرأة».
لكن فيلمي ألمودوفار اللاحقين «كعب عال» (1991) و«كيكا» (1993) حصدا معارضة نسائية (ورقابية) في بعض العواصم الأوروبية، كما في الولايات المتحدة. وجاء فيلمه «لحم حي» (1997) ليستعير القليل من سينما ألمودوفار السابقة. الا أنّ «كل شيء عن أمّي» (1999) أثار إعجاب النقاد الذين راقت لهم الميلودراما الباحثة عن الماضي، وما يشوبها من قرارات اتخذت بناءً على خيارات جنسية وعاطفية. في أفلام المودوفار، هناك القليل من الحب والكثير من تصارع الرغبات، على طريقة الألماني فاسبيندر.
«كل شيء عن أمّي» جاء خطوةً جديدةً في اتجاه الحديث عن المرأة المحبطة. وفي «تكلم معها» (2002) ارتقى المودوفار فجأة الى مستوى الشعر حيث الموت حاضر، والماضي أيضاً. أما في «تربية سيئة»، ففتح المخرج صفحات حياته، من خلال قصة صبي يصبح مثلياً بسبب اعتداء كاهن عليه في المدرسة الكاثوليكية. «تربية سيئة» من أفضل أفلام ألمودوفار، لكنّه يتهاوى، في النصف ساعة الأخيرة، عندما ينتصر ألمودوفار المخرج على المودوفار الكاتب... وهذا ما يحدث أيضاً في «Volver» الذي نشاهده الأريعاء في بيروت.