أمل الأندري

«كنت أعرف أنّ بيتر أبصر النور بعدما مزجتُكم معاً، مثلما كان الانسان الحجري يحفّ قضيبين لإشعال النار. بيتر هو شرارة انصهاركم». هكذا اختصر الكاتب الاسكتلندي جايمس باري (1860 - 1937) ولادة بيتر بان، بطله الشهير الذي استوحى ملامحه من أطفال صديقة لندنية تدعى سيلفيا دافيس.
في الحقيقة لم يفعل باري، الرجل الدميم الذي لم يكن طوله يتعدى متراً ونصف متر، سوى اختراع الطفل الذي كان يحلم أن يكونه. لكن هل كان يعلم حين كتب نص «العصفور الابيض الصغير» (1902)، ثم حوّله مسرحية بعنوان «بيتر بان أو الصبي الذي يرفض أن يكبر» ــ قدّم عرضها الأوّل في لندن عام 1904 ــ أنّه يعطي الحياة لطفل أسطوري؟ عاش بيتر بعد خالقه... اخترق القرن ودار حول العالم وعاش أكثر من حياة في أكثر من لغة، على المسرح والشاشة وفي ألبومات الشرائط المصوّرة، من دون أن تعتري وجهه الطفولي تجعيدة واحدة...
الولادة الرسمية لهذه الشخصية الكرتونية كانت عام 1906، حين نُشر القسم الخاص ببيتر من الرواية وزيّنته رسوم آرثر راكهام. هكذا يطفئ بيتر هذا العام شمعته المئة، وقد كُرّست له صفحات كاملة في كبريات صحف العالم. كلّنا عاش في عمر ما مغامرات هذا الصبي الذي يرفض أن يكبر، وقد شكّلت احدى ركائز أدب الأطفال في أكثر وجوهه شعبية وانتشاراً. بان إله الطبيعة لدى الاغريق يجول في سماء لندن ويعلّم أطفال عائلة دارلينغ (مايكل وجون وويندي) الطيران، فيرافقونه الى عالم خيالي يُدعى نيفيرلاند، حيث المغامرات تنتظره مع الجنية تينكر بيل وعدوّه القرصان هوك الشرير.
لكن هذه الشخصية ليست سوى مرآة للحياة التي عاشها خالقه. بيتر تحت المجهر اليوم، مثل شخصيات كرتونية أخرى بينها «تان تان وميلو» رائعة الكاتب البلجيكي جورج ريمي. انبرت الدراسات في تحليل شخصيته الغريبة والمعقّدة. وخلصت الى أنّه يخاف دخول عالم الكبار، أي مرحلة النضج. وإذا ما عدنا الى حياة خالقه، لرأينا أنّه شهد طفولة صعبة، من وفاة شقيقه الصغير الى رحيل الناس الذين أحبّهم.
بيتر البريء والفرح... بلا قلب أيضاً. هو غير قادر على الحب، بل عاجز عن الاحساس أصلاً، لأنّه أناني عالق في نقطة تضيع فيها الحدود بين الخيالي والواقعي. أكثر من ذلك، بيتر ليس سوى الوجه الآخر للقرصان هوك الشرير: كلاهما يخشى الآخر، لكن وجود الأول إثبات لوجود الآخر، كالخير والشرّ. بيتر وهوك وحيدان في هذا العالم من دون حبّ. لكن النقطة الوحيدة التي تفصل القرصان عن الصبي، هو الحاضر، أي مرحلة النضج... التي هي عدوّ بيتر.
ألهم بيتر العديد من الأعمال في المسرح والسينما والكوميديا الموسيقية، منها كوميديا ليونارد بيرنشتاين (1950) وجيروم روبنيز (1954) وصولاً الى أفلام ديزني «بيتر بان» (1953) و «العودة الى نيفيرلاند» (2002).
لكن مما لا شك فيه أن باري ما كان ليجرؤ على كتابة رائعته التي تشبه رواية سانت إكزوبيري «الأمير الصغير» ببساطتها وشخصياتها المركبة أيضاً، لو عرف أنّ طفله العزيز ــ كي لا نقول صنوه ــ سيخضع لتشريح دقيق... ويفضح أسراره الدفينة.