بيار أبي صعب
قد تكون فرنسا المختبر الذي أنتج مفهوم المثقف كما هو سائد ومتداول في العالم العربي. المثقف بالمعنى السارتري، أي الشاهد على عصره، ضمير الجماعة، منارتها وصوتها. المثقف الملتزم المنخرط في قضايا عصره ومجتمعه، الناطق باسم المضطهدين. المثقف الذي يحتلّ المواقع الأمامية في المواجهة مع السلطة، ومع رموز القمع وسياسات الاستغلال. دائماً في الطليعة، في الشارع، وفي الخندق أيضاً.
وخلال الموسم الحالي صدرت في باريس أبحاث وكتب تعيد النظر في مفهوم هذا “المثقف” الذي لم يعد له وجود فعلي، بعد رحيل آخر الكبار من أمثال بيار بورديو، واختيار الآخرين مناحي أكثر براغماتية، وأقلّ ادعاء. خصوصاً بعد انحسار الخيارات الراديكالية، والنزعات “الثورية”: “بناء الإنسان الجديد ــ ومثله تغيير العالم ــ لم تعد مجرّد أوهام جميلة أقرب إلى الطوباوية، بل مخاطرة في ترويج أفكار قاتلة”، يكتب روجيه ــ بول دروا في جريدة “لو موند”. الثورة، بمختلف وجوهها، لم تعد فقط مشروعاً غير قابل للتطبيق: لقد باتت مضرّة ببساطة، في نظر النخب الجديدة، وصار اليأس التام منها، هو الخطوة الأولى الضرورية قبل أي نزول إلى معمعة الواقع وخوض شتّى النضالات والمعارك. ولا بد من التفتيش ناحية الخيبات السياسية المتلاحقة، وانحسار المشاريع السياسية الكبرى، لفهم هذا التحوّل... ولا سيما أن المناضلين الجدد ــ المناهضين للعولمة على اختلاف مشاربهم ــ باتوا يرفضون “وصاية” المثقف، ولا يعترفون بسلطته، ولا يحتاجون إلى وسيط أو “شيخ طريقة” للدفاع عن مطالبهم، وخوض “مقاومتهم” لوحش النظام العالمي الجديد.
بات “مضطهدو الأرض” في غنى عمّن يمثلهم ويحكي باسمهم إذاً، من وجهة نظر أهل الشمال. لكن كيف يكون الأمر بالنسبة إلينا؟ لا شك في أن نهاية المثقف على الطريقة الفرنسية، حفيد فولتير ووريث الثورة الفرنسية، يطرح سؤالاً أساسياً على المثقفين العرب. الأمور في هذا المقلب من العالم لم تتغير، في مختلف مجالات التنمية والتعليم والصحة والسيادة الوطنية والديموقراطية والمساواة ودولة القانون وحقوق الإنسان. فهل استقال المثقف أو انسحب؟ هل تقاعد من دون أن يترك ورثة؟ هل أخذه التكريس، واحتوته السلطة، وابتلعته العشيرة أو الطائفة الى غير رجعة؟ هل باع نفسه لشيطان “الأوضاع القائمة”، بحثاً عن استقرار واهٍ؟...
المثقف العربي؟ يخيّل إلينا أنّه لم يعد صالحاً إلا لبرامج تلفزيونية يقدمها مذيع أبله، يستضيفه ــ بالطريقة المعهودة نفسها ــ بين فنانتي إغراء؟