القاهرة ــ محمد خير
لم يكن من الضروري أن يُظهر أحمد عبد المعطي حجازي مجدداً كراهيته لقصيدة النثر، كي يعاد تسليط الضوء على واحدة من أغنى التجارب والمغامرات الابداعية في مصر خلال العقود الأخيرة. ما الذي يخيف الشاعر المصري المعروف، وهو من أبرز شعراء التفعيلة العرب، من تلك الأصوات المميزة التي تحتلّ مكانها على الخريطة الشعرية المصريّة، كما النبتات البرية على تخوم حديقة بورجوازية مشذبة بعنايةأنا سعيد جداً بغياب النقد!”. دفعة واحدة، ومن دون مداورة، يجاهر إبراهيم داوود بموقفه: “أدى غياب النقد إلى ازدهار الكتابة الجديدة، وعلى رأسها قصيدة النثر”. والشاعر المصري الذي يستعد لإصدار ديوانه الجديد “أسطورة المشي” (دار ميريت للنشر)، يُعتبر من رموز قصيدة النثر من أوائل التسعينيات. وهذا الموقف وحده، يختصر إشكالية قصيدة النثر في مصر.
تراوح رد فعل “النثريين”، على مؤتمر الشعر العربي المقرر في شباط المقبل في القاهرة، بين تشاؤم ولامبالاة. فالدولة، حسب محمود خير الله، ليست مهتمة بالشعر، بل تريد أن “تبدو” مهتمة به، إنّها دولة ترى في الشعر خطراً على الخيال العام. دولة عجوز اقتصرت نشاطاتها الشعرية هذا العام على الاحتفال بسبعينية محمد عفيفي مطر وسبعينية إبراهيم أبو سنة”. ويستخلص الشاعر: “سننتقل من دولة تحاصر الشعر إلى دولة تتجاهله”.
دولة تتجاهل الشعر؟ طالما حرصت الدولة المصرية على التعامل مع الشعر بشقيه الفصيح والعامي: سواء بالتكريم ومنح الألقاب والمناصب القيادية، أو بالسجن والاعتقال. لا يمكن الدولة في مصر أن تتجاهل الشعر، لكن قصيدة النثر مسألة أخرى. بعض الرموز البارزة في المشهد الثقافي، يكتب مشجعاً القصيدة النثرية، لكنه في لحظة الجد (أي في المؤتمرات والمهرجانات) يلجأ إلى القصيدة التي “تستند إلى شرعية أوضح”. هكذا، تُستبعد القصيدة النثرية من الدعوات ومن الجوائز، عملاً بقاعدة “اللي تعرفه أحسن من اللي متعرفوش”!
هذا الارتباك موجود لدى شعراء النثر أنفسهم أيضاً. يجمعهم يقين بأن قصيدة النثر المصرية أثبتت وجودها و“صمودها”، فيما معظمهم يصر على أنه ما زال “يجرب”. تــــــقول الشاعرة زهرة يـــسري: “ما زلت أجـــــرب أشكال الكتابة. لا أعـــرف الى أين سأصل، لكني لن أعود أبداً إلى الأشكال القديمة”. بيــنما يعتبر تــــامر فتحي الذي لقي ديوانه الأول “بالأمس فقدت زراً” ترحيباً على الساحة الثقافية، أن قصيدة النثر المصرية “ما زالت في بداياتها، ذلك أن جيل الثمانينيات والتسعينيات له فضل الريادة وتثبيت الدعائم. لكن التخلص التام من الغنائية لا يبدأ إلا بعد ذلك”.
على مدار القرن العشرين، لم تنطلق حركات الريادة والتجديد الشعري من مصر، بل من العراق وبلاد الشام والمهجر. لكن شبان المشهد الشعري المصري الذين لا يعرفهم الجمهور الواسع، يلعبون اليوم دوراً مفصلياً في ترسيخ القصيدة النثرية الجديدة. من أهمهم عماد أبو صالح، إيمان مرسال، كريم عبد السلام، أمجد ريان، هشام قشطة، علي منصور ، هدى حسين... وعشرات غيرهم ممن تنفد أعمالهم ويعاد طبعها. كأن هناك جمهوراً خفيّاً يرعى هذه القصيدة وينقذ شعراءها من العزلة والإحباط!