نور خالد
هناك الكثير من الرغبة في إحياء صورة الأب في حكايات دراما رمضان. لكن هذه الرغبة التي تخاطب جمهور العائلات المحتشدة حول الشاشة، خفية وسرية، على عكس ما يعتقد الكثيرون. غالب الظن أن مؤلفي حكايات مثل “سكة الهلالي” و“حضرة المتهم أبي” وغيرها، يعون جيداً أن صورة الأب، بفضاءاتها السلطوية والذكورية، لم يعد لها الحضور ذاته في مجتمعاتنا، كما كان عليه الأمر منذ عقود خلت. لقد ثارت أجيال من الشباب في مصر ولبنان والمغرب على تلك الصورة التي اختبأت وراءها، على مدى التاريخ، وجوه مختلفة للسلطة. حتى إن التلامذة، في بعض الدول العربية، كانوا ولا يزالون، يسمون رئيس الدولة، الحاكم الديكتاتوري غالباً، “بابا فلان”. وفي مراسم موت الحاكم التي تنقلها شاشات التلفزة عادة، علينا أن ننتبه الى الكثير من المتفجعات بموت الرئيس، وهنّ يندبن رحيل “القائد الذي كان مثل أبي”.
على مدى عقود، عملت الآلة الدعائية للأنظمة الشمولية العربية على الربط بين صورة الأب وصورة الرئيس. فصارت الثانية محميّة ومقدّسة بفعل قداسة الأولى، اجتماعياً ودينياً، وصارت الأولى مكرسة وراسخة بفعل رسوخ الثانية، سياسياً. لكنّ ذلك الجيل المتمرد، قاتل صورة الأب، فرويدياً ونضالياً، تمكّن من الإفلات من ذلك الأسر. وقدّم جيل من المبدعين أعمالاً تعكس فكراً متحرراً من تلك الهيمنة، وتُصوِّر تهشيماً متعمداً وعنيفاً لتلك الصورة. هكذا مثلاً ظهرت موجة أفلام سينمائية في مصر، قادها مبدعو الثمانينيات، تهمّش صورة الأب ـــ القائد، وتخرج منها وعليها، بعدما كانت تلك الصورة حاضرة بقوة في حقب سابقة، مع حسين رياض ويحيى شاهين وغيرهما. قتل رضوان الكاشف الآباء ـــ القادة في “عرق البلح”، واستعاد خيري بشارة سير النساء المخلصات في “يوم مر يوم حلو”، ودفع محمد خان بطله في “زوجة رجل مهم” (لنلاحظ عنوان الفيلم الذي ينتصر للمرأة) الى حافة الجنون والسذاجة. ماذا يحصل اليوم؟ يحاول صنّاع المسلسلات حصار ذلك التمرد عبر إعادة إحياء صورة الأب، وإن “بخبث”. في “حضرة المتهم أبي”، يجهد البطل نور الشريف، طوال الحلقات، لتحقيق مكسب وحيد: اجترار عطف الجمهور وحنوّه تجاه صورة الأب “المغدور” الذي خرج ابنه من جلبابه، فتاه في “سكة الهلاك”. في إحدى الحلقات، يقول الأستاذ عبد الحميد دراز (نور الشريف) في لحظة تفجّع قصوى وألم عنيف بسبب “خيانة” ابنه “ميدو” لمبادئ وقيم “التربية الفاضلة”: “لماذا ينجب الآباء الأبناء؟ لكي يتألموا ويتحسروا”. تكاد هذه العبارة تختصر كل شيء. إنها روح الفكرة السلطوية التي تفيد بأن الآباء، باسم أبوتهم ومسؤوليتهم عن فعل الإنجاب، حاضرون طوال الوقت لـ“ابتزاز” الأبناء وطلب المقابل من الطاعة والولاء، وإلّا فإن الألم سيعتصر قلوبهم. ينسج مؤلف المسلسل أحداثه على وقع نوستالجيا خفية الى صورة الأب المقتولة، ودعوة ضمنية لعودة الأبناء “الضالين” الى كنفه. لقد أثبتت تلك المعادلة نجاحاً تجارياً باهراً في أعمال سابقة جسّدها الشريف أيضاً، مثل “لن أعيش في جلباب أبي” و“الرجل الآخر” و“الحاج متولي”، فلماذا لا تعاد، ما دام الشارع يطلبها؟
وحين حاول الشريف أن يكون تلك الصورة التي لا تتلاءم مع “قداسة” الأب وترفعه عن “الخطأ”، كأن يظهر ستينياً مراهقاً في “عيش أيامك”، رفضه الجمهور وشن النقاد حملة عليه. كان الجميع يريد إرجاع الشريف الى “كهف” الأبوة. هكذا نحن، نريد قتل آبائنا ونخاف منهم وعليهم، في الوقت ذاته. وصناع المسلسلات لا يتوانون عن استغلال خوفنا في كل مرة.