strong>القدس المحتلة ــ نجوان درويش
يبدو أنّ العلاقة بين محمود درويش والمسرح الفلسطيني لم تستنفدها تجربة “الجدارية” التي أخرجها نزار أمير زعبي من انتاج المسرح الوطني الفلسطيني. فبعد النجاح الذي حققته المسرحية العام الماضي، عاد زعبي هذا العام الى نص درويشي آخر هو “ذاكرة للنسيان”، ودخل التجربة هذه المرّة برفقة مسرحي آخر من الرعيل الأسبق... ليس سوى المسرحي البارز فرنسوا أبو سالم، صانع السنوات الذهبية للخشبة الفلسطينية. فرنسوا أبو سالم الذي حقق حضوراً عربياً وعالمياً، هو من مؤسسي “مسرح الحكواتي” في القدس الذي توهج في ثمانينيات القرن الماضي. غاب أبو سالم عن المسرح الفلسطيني لعقد ونصف عقد كان حينئذ في فرنسا، وإن لم ينقطع تماسه مع “الحركة” المسرحية الفلسطينية. وها هو اليوم يعود للإقامة من جديد في أحد أحياء القدس، والعمل مع المخرج نزار زعبي (مواليد 1976) كأنه يستعيد في هذه التجربة شبابه الفني.
أقيم العرض في إطار “عيد القراءة” الذي نظمه المركز الثقافي الفرنسي في القدس. والأمسية التي أدى خلالها أبو سالم “ذاكرة للنسيان” (نص طويل كتبه محمود درويش في مناخ الاجتياح الاسرائيلي لبيروت ــ 1982)، استعاد من خلالها الجمهور أجواء العدوان الأخير على لبنان. وبدا أن الحرب كانت البوصلة التي وجّهت المخرج زعبي والممثل أبو سالم إلى “ذاكرة للنسيان”، وأثّرت في إعداد النص مسرحياً. ووضع الفنانان يدهما على الشرخ الانساني ومفارقات التاريخ: 24 سنة مرت على اجتياح بيروت، والواقع يكرر نفسه ببلادة. خيّل إلينا أن جملة مثل “قصف شديد على بيروت. هذا هو الخبر كأنه نبأ عادي في نشرة الأخبار” هي من تموز 2006 ولم تُكتب عن صيف 1982. تفاصيل حيفا كما استعادها الشاعر عام 1982، جاءت مشحونة بانفعالات وأجواء مرحلة “ما بعد حيفا”. وكان من الصعب ألا تختلط مشاهد من الضاحية الجنوبية، بتأوّهات عشيقة شلومو الفاشية التي تسأل بتوتر ونفاد صبر “لمَ لمْ تقتلوهم بعد؟”.
ما قدمه أبو سالم في المركز الثقافي الفرنسي، كان بمثابة “دوزنة” مسرحية لـ“ذاكرة للنسيان”، أو “دعك” مسرحي لنص أدبي من أجل الخروج بمسرحية يتوقع انجازها مطلع 2007. وكشفت قراءة أبو سالم ــ وإن بشكل أوّلي ــ عن المسرحية الكامنة في النص النثري المشبع بلغة الشعر وكثافته. وأزاحت الستارة عن القدرات المسرحية للنص، وصارت الأصوات المتعددة التي يختزنها مسموعة أكثر. هكذا، نجحت القراءة المسرحية في تقديم جملة من الانفعالات والعواطف المتضاربة، بأداء مقتصد وبلغة جسد خفيفة ومضبوطة، وأخرجت أدواراً مسرحية من صلب عمل أدبي مكثّف ومتأنق لغوياً وصلد أيضاً مثل كتلة نحتية ضخمة.
مع قراءة أبو سالم، كانت “جهامة النص” تنزاح في اتجاه الحيوية والحركة، وراحت كتلته تنحل ــ مع صوت الممثل وتعابير وجهه وحركات جسده ــ إلى صور ومشاهد وأصوات تستدعي خشبة المسرح.