بيار أبي صعب
أخيراً ليو فيري في بيروت. تهرّبه سافو إلينا في عباءتها المراكشية، وقد جعلته أندلسياً مثلها، مغربياً أكثر منها. ألبسته حلّة الفلامنكو بمساعدة فينشنتي ألماراز على الغيتار. ليو في المدينة المتعددة الوجوه التي تبحث سدى عن وجهها بين حطام المجازر وصخب “الكاباريه”. جاء متأخراً... ثلاث عشرة سنة وشهرين بعد رحيله في عيد الثورة الفرنسية. الثورة، هذا المفتاح السحري الذي حرّك قريحة الفوضوي بالأسود والأحمر، منذ ارتبط العام 1947 بعلاقة صداقة مع بعض المناضلين الهاربين من بطش فرانكو وجحيم الحرب الأهليّة الإسبانية.
ليو فيري في بيروت، الزيارة تأخرت كثيراً. ما عاد الشبان والشابات يبحثون كالمدمنين عن اسطواناتك الـ33 لفّة، مثلما كنا نفعل، في بعض محلات الموسيقى في الأحياء الراقية، ويتناقلون الأشرطة المقرصنة في جحيم الحرب الأهلية، ويحفظون قصائدك عن ظهر قلب، دليلاً للعيش والحبّ والتمرّد والسفرفيها يلتقون الشعراء الكبار، خلانك الذين كنت تصادف أطيافهم في أزقة سان جرمان: فرلين وأبولينير وأراغون... روتبوف وفرنسوا فيّون... وقبلهم جميعاً بودلير وأزهار شرّه، رامبو وأغاني تيهه. من دون أن ننسى أصدقاء عاصروك مثل جان روجيه كوسيمون.
ماذا أتيت تفعل؟ من سيتعرف إلى تلك الهالة البيضاء حول رأسك، إلى تلك الكلمات، نقرات البيانو النزقة، قهقهاتك وأنت تخاطب “مسيو ويليم”، صراخك وأنت تغني “الفوضويين”، همسك وأنت تخاطب “ماري” أو تسترسل في “الذاكرة والبحر”. أعرف أنت لا تكتب “مثل ديغول أو سان جون بيرس”، بل “تعوي مثل كلب”. هذا العواء هو الذي جعلني أركب الطائرة وأصبح فرنسياً... وما زلت أبحث حتى اليوم عن “خلان ليل” يعيشون في إحدى أغنياتك. ما زلت أغنّي لقردك PePe الذي انسلخ عنك ذات يوم مشؤوم من 1968، عام الثورة.
سيأتي جمهور غفير إلى حفلة سافو. لكن، لعلّي وحدي في انتظارك يا ليو... قد يكون هناك شخص آخر هو محمود الزيباوي، لكنني لا أعرف أين هو اليوم. أحذرك منذ الآن. الشباب الفرنكوفون يسمعون الهارد روك الإنكليزي، والعجائز الفرنكوفون لا يذكرون سوى ميراي ماتيو التي شتمتها بعذوبة منذ العام 1967 وأنت ترثي إديت بياف “المغنية الميتة”. بعد جولييت غريكو وكاترين سوفاج، تعيدك سافو إلى أزمنة أخرى أفلتت منا جميعاً. بعيداً عن Paname الاسم الحركي لباريس، في بيروت (منفاي) أو توسكانا (منفاك) لا فرق، أو في جحيم السيد دانتيه الذي هبطت إليه ذات 14 تموز قبل أن تنهي القصيدة. ما زلت أحتفظ ببعض الأشياء التي سرقتها بنفسي من ورثة حبيبتك: أُذن فانغوغ وغليون بلزاك وصوت أندريه بروتون و absinthe فرلين الكحولي الفتاك. لم ألحق حفلاتك في قاعة بوبينو، لكن عندي الأسطوانة. شاهدتك في قاعات أخرى. وما زلت أحتفظ ببطاقتي حفلة الـ REX التي مت قبل أن تحييها. الثلاثاء في قاعة مونتيني انظر جيداً إلى اليسار، لعلك تتذكرني وأنت تلمح حطام ذلك الصحافي الأخرق الذي حاورك متلعثماً في كواليس مسرح “دو جازيه”. “مع الوقت/ كل شيء يمضي/ حتى ألطف الذكريات/ إلخ”...