حسين بن حمزة

لم يكن الشاعر السوري عبد اللطيف خطاب معروفاً على نطاق واسع. لذلك جاء خبر وفاته قبل أسبوع عادياً وعابراً بالنسبة الى كثير من القراء، بل بالنسبة الى الكتّاب والشعراء أنفسهم. عبد اللطيف خطاب هو واحد من الأسماء المميزة التي ضمّها ما كان يسمى بـ“ملتقى جامعة حلب” الذي ذاع صيته، كمختبر للكتابة الشعرية في سوريا وخارجها أيضاً.
شارك في هذا الملتقى شعراء كثر، وتخرجت منه أسماء وتجارب ترسخت في ما بعد لتمثل جزءاً مهماً في مشهد الثمانينيّات والتسعينيّات الشعري في سوريا. ولا يمكن أي دارس أو قارئ لتلك الفترة أن يتجاهل عدداً من شعراء الملتقى أمثال: عبد اللطيف خطاب ومحمد فؤاد وعمر قدور ولقمان ديركي وغيرهم. وهي أسماء تجاوزت اليوم نطاق الملتقى وبات لها حضور خاص داخل الشعر السوري عموماً.
عبد اللطيف كان واحداً منا، كنا مجموعة أصدقاء وشعراء في الوقت نفسه. لا بد من ذكر هذه الصداقة، لأنها لعبت دوراً لافتاً في جعل ذاك المختبر الشعري ممكناً. ذلك أن نقاشاتنا حول الشعر كانت تأخذ الكثير من وقتنا ووقت دراستنا كطلبة في الجامعة. كنا ننقل النقاش معنا أينما ذهبنا، والواقع أننا قلما كنا نفترق. فبعد جلسات كافتيريا الجامعة في الصباح، كنا نلتقي في مقهى القصر ظهراً، وغالباً ما كنا نختم جلسة المقهى بالاتفاق على السهرة في “المقصف العمالي” أو “العندليب” أو “حنا كعدي”. وهي أمكنة كانت تستقبل المثقفين مثلما كانت تستقبل تجار المواشي والعقارات والمتسكعين بلا هدف في حلب الثمانينيّات.
كان عبد اللطيف معروفاً بمشاكساته على منبر الملتقى. وكثيراً ما تلاسن مع دكاترة كلية الآداب الذين كان بعضهم يدير المداخلات والسجالات عقب إلقاء القصائد المشاركة. لكن ما كان يعرف أكثر عن عبد اللطيف هو قلبه المريض. وحين قرأنا خبر موته كان قلبه الضعيف أول ما خطر في بالنا، ثم تبين أنه توفي إثر عملية جراحية فاشلة لا علاقة لها بالقلب.
عبد اللطيف، أو “الغرنوق الدّنِف” و“الأمير الشرقي” كما أحب أن يسمّي نفسه، كان أسبقنا إلى نشر مجموعته الشعرية الأولى التي صدرت عام 1990 (رياض الريس للكتب والنشر ـــ لندن)، وحملت عنوان “زول أمير شرقي”. لكنه لم ينشر غيرها قط. لم يحصل الراحل على جائزة يوسف الخال (1991) كما كتبت “الحياة” السعودية، وهذا لا يقلل من أهميته. كما أن كتاب “الشعر يكتب اسمه” للناقد محمد جمال باروت ـــ عرّاب الملتقى حينذاك ـــ لا علاقة له بملتقى الجامعة حسب ما ورد في الصحافة أيضاً.
تحتوي مجموعة خطاب الوحيدة ـــ له اثنتان لم تطبعا بعد ـــ على ست قصائد، ذات عناوين غريبة وقاسية، وهي “موت الشاعر” و“موت الإله الطيب” و“أفول نجم الدكتاتور” و“صلاحيات ولي العهد” و“طغيان رمل الموت” و“تاريخ الجمجمة”.
لم تكن العناوين وحدها الغريبة والصادمة، فالنصوص نفسها كانت مكتوبة بلغة هذه العناوين. إذ يجد القارئ مادة شعرية طليقة ومتدفقة بلا ضوابط سوى ما تمليه المخيلة والنفس الشعري الصاخب والخصب. كما يلاحظ الميل إلى هتك اللغة والإكثار من الإحالات التاريخية والبلاغية، وخلط ما هو سلس بما هو فج ومتفق على إبعاده عن تعريف الشعر وجمالياته. والواقع أن الخطاب كان بارعاً في تركيب مواد نصوصه باذلاً لها نبرةً كارثية وفصاحةً عالية. لكن على رغم أن ذلك منح تجربة عبد اللطيف فرادة ما، لم تكن الحصيلة الشعرية دوماً بمستوى الجهد التركيبي والبلاغي المبذول فيها. إلى حد أن التركيب والبلاغة كانا يستدرجانه إلى النحت والاشتقاق والبحث اللغوي أكثر من الإصغاء إلى ما يجعل ذلك شعراً محضاً.
انقطع عبد اللطيف عن كتابة الشعر سنوات عدة، ثم عاد أقل صخباً. لكن الملتقى كان قد انتهى، أو بالأحرى جرى إنهاؤه. عاد الشاعر إلى مدينته الرقة ليعيش موظفاً ينتظر راتبه آخر الشهر، كي يسافر إلى حلب لملاقاتنا في مقهى “القصر” أو “العمالي”، واستعادة هواء قديم لن نتنفسه معاً بعد اليوم. وداعاً عبد اللطيف!