بيار أبي صعب
«أيام بيروت السينمائية» التي تنطلق دورتها الرابعة بعد ايام، تعيد الى المدينة الخارجة من الحرب والحصار بعضاً من ألقها الضائع. ويستأنف المهرجان رهانه على التجارب الشابة والمستقلة في الوطن العربي، كما يستضيف عرضاً جديداً للفنان ربيع مروة.

«أطلال» فيلم استشرافي بامتياز. غسان سلهب حضّر لمشروعه خلال العامين الماضيين، راصداً حالة اليأس والإحباط الجماعي في عزّ خطابات الازدهار والإعمار والمستقبل. واصل التصوير بعد ١٤ شباط ٢٠٠٥، وما تلاه من «انتفاضة استقلال»... وها هو يقدمه في بيروت الخارجة من الشهر الفظيع الذي شهدناه، ما يعطي لقراءة هذا العمل الذي يعرض للمرّة الأولى عربياً خلال «أيام بيروت السينمائيّة» أبعاداً جديدة أكثر وضوحاً ومباشرةً. في هذا الجزء الأخير من «ثلاثية بيروت» إذا جاز اعتباره كذلك، يمضي السينمائي اللبناني الشاب في رصد خراب الداخل. اختار سلهب هذه المرّة الطرح الميتافيزيقي، واستحضر مراجع جمالية خاصة، للتعبير عن الضياع الجميل، الفردي والجماعي، عن استحالة المستقبل، عن الغرق التدريجي في لجّة ليل بلا قرار، وعالم من الصمت والظلام... بعد «أشباح بيروت»(١٩٩٨)، و«أرض مجهولة» (٢٠٠٢)، يحوم سلهب مجدداً في شوارع بيروت، كما المجرم حول مسرح الجريمة. يواصل تسكّعه بين أطلال الروح، مطارداً أشباحه الحميمة في متاهات المدينةالمستحيلة. يغوص في قاعها السري، غير المرئي غالباً، غير المعلن في كلّ الأحوال. لم يعد من أثر «ظاهري» للحرب هنا، إنها مستترة، كامنة، تخيّم على المشاهد من خلال وجع مبهم، وقلق لا يقال، يبقي حبل التوتر الدرامي مشدوداً. الأحداث السياسية المباشرة تحضر بشكل موارب، كصدى بعيد للواقع، من خلال الراديو تحديداً: هذه الشخصية التي تطالعنا في كل أفلامه، تعكس العالم الخارجي وتؤطر التجارب الحميمة والحكايات الصغيرة، وتشرّعها على احتمالات القراءة والتأويل. نحن في بيروت بعد الحرب على الأرجح. تتعاقب الجرائم في المدينة، والضحايا كلها مقتولة بالطريقة نفسها. الجثث التي تبدو دائماً جميلة، تحمل آثار عضة في أسفل العنق. كأن القاتل الغامض مصّ دم ضحيته حتى الثمالة. هذه الأحداث نتابعها من وجهة نظر طبيب أربعيني، محاط بالنساء، مولع بالغطس، تبدو عليه علامات النجاح. لكنّ الدكتور خليل شمس ليس “على بعضه” هذه الأيام، هناك شيء ما يقلقه، يعذّبه، ويمضي به الى الخروج، شيئاً فشيئاً، من عالمه الهادئ والمستقر. لحم أحمر في البرّاد، لحم في المشرحة، والضوء ـ هذا الضوء اللعين، يزعجه أكثر فأكثر. في خلوة مكتبه المظلم يعيش مع صور الضحايا، وفي صمت القاع البحري نخاله كائناً آخر، نصف آدمي ونصف سمكة ربّما. نسمع تنفّسه الرتيب، المقلق. شخصيته تتفكك أمامنا ـ وجسده أيضاً ـ فيمضي في رحلة «تحوّل» تنقله الى المقلب الآخر من المرآة، الى جحيم الداخل الذي يحتضن شياطيننا الحميمة ووحوشنا الضارية.كلّما عاين ضحيّة جديدة يقترب الدكتور خليل أكثر من ذلك القاتل الغريب، حتى التماهي معه. يشعر بعطش متزايد الى الدم، وبحاجة الى الانعزال والزهد. لم يعد يريد شيئاً سوى الخروج من قشرته، تسيّره قوّة خارجية في تحوّله التدريجي. سيخرج من دوره الاجتماعي، يختفي من المستشفى والبيت ودائرة الأصدقاء. يغوص في ليل بيروت متعقباً صنوه الذي يلتقيه طبعاً آخر الفيلم، في أحد أجمل مشاهد السينما اللبنانية ربّما: رجلان يتواجهان في الظلمة، خلفهما المدينة، مثل بطلي برنار ماري كولتيس في “عزلة حقول القطن”.
“أطلال” فيلم من نوع خاص، مرصّع بالأغنيات القديمة والإحالات الثقافية. («أنا لك على طول» تحية الى محمد سويد؟). فيلم مؤسلب يقتصد في الحوارات، وفي اللقطات أيضاً. ينتمي إذا شئنا الى سينما “مصاصي الدماء”، لكننا سرعان ما نكتشف أبعاده الوجودية والميتافيزيقيّة. يمكنكم أن تتصوّرا دراكولا يحوم في شوارع بيروت، مدفوعاً بميول شريرة غامضة. غسان سلهب يقدم لنا فيلماً سياسياً من حيث لا يدري، أو لا يريد أن يعترف. هذا المخرج المولع بالمتاهات يهيم فيها بحثاً عن الأشباح، عن أضغاث الحكاية، يلملمها في لغة سينمائية صعبة، بسبب تعدد مستويات السرد، وتقاطع الشخصيات والأحداث والمشاهد. وسلهب مولع بالفن السابع، يستحضر هنا بعض أجمل مراجعه. الألوان الزاهية في أول الفيلم تختفي حتى نصل تقريباً الى فيلم بالأبيض والأسود. والسيناريو يتخفف تدريجاً من الكلام حتى نصل الى سينما شبه صامتة. لا نقع في “أطلال” على أي من كليشيهات سينما مصاصي الدماء. الدكتور الذي تقوم شخصيته على مهارة كارلوس شاهين التمثيلية، ليس عنده أنياب ولا مشلح أسود (لكن لاحظوا المعطف في الصورة)... وحده أداء كارلوس وشخصيته الملتبسة الباردة، وحركة يده الخفية، تعطي للفيلم نبضه. مثلما تمنحه موسيقى سينتيا زافين على البيانو كثافته الدرامية.
الدكتور خليل، في لعبة انهياره البطيء، هو الأخ البعيد للدكتور مابوز والدكتور كاليغاري وغيرهما من أبطال السينما التعبيرية التي جاءت تعبّر، مع مورنو وفريتز لانغ، عن روح ألمانيا الشقية بعد الحرب العالمية الأولى، التي ستنجب مسخاً اسمه أدولف هتلر. عنوان الفيلم بالفرنسية (الرجل الأخير) يحيل الى فيلم شهير حققه مورنو بعد عامين من فيلم “نوسفيراتو” (1922) الذي استوحى فيه أسطورة دراكولا. هذا هو المستوى الجمالي والفكري الذي يأخذنا إليه غسان سلهب في استحضاره روح بيروت الملعونة، الكامنة في أعماقنا المأزومة والمريضة.