عشية افتتاح “مهرجان المسرح التجريبي”، كان الستار يسدل على تظاهرة أخرى في القاهرة، لعلّها أكثر أهمية، مصرياً وعربيّاً. إنّه “مهرجان المسرح المستقل” الذي أبصر النور كردّ فعل، وإعلان تمرّد، وهو يحتضن بعض الأسماء الواعدة بمستقبل خصب في البلد الذي احتضن دائماً النهضة المسرحية العربية.لقد ضاق المبدعون الشباب ذرعاً بالطابع ”الرسمي” الطاغي على “احتفالية” ترعاها الدولة، ففضلوا تنظيم موعدهم السنوي بعيداً من الضجّة الإعلامية، وزحمة سياح الثقافة. يرزح “التجريبي”، برأي هؤلاء، تحت عبء البيروقراطية، والوصاية الفكرية، والفولكلور الإبداعي المصنّع للمناسبات فقط، والمجاملات الديبلوماسية المتحكّمة بالبرمجة.
فهل ضاق “التجريبي” بالإبداع الجديد الذي يفترض به احتضانه؟ أياً كان من أمر، في بلد لا يفرز اقتصاده وسائل إنتاج ثقافية مستقلّة، لا مفرّ من المراهنة على رعاية الدولة...
قد يكون المسرحيون الشبان في مصر على حق، حين يلومون وزارة ثقافتهم على تنظيم تظاهرة ضخمة لا يبقى منها شيء حين تسدل ستارة الفصل الأخير، وينفض الجمهور العابر، ويعود الضيوف العرب والأجانب من حيث أتوا... لو وظّف جزء من تلك الأموال لدعم الإنتاج المصري الجديد، يفكرون، لامتلأت قاعات المسرح في كل أنحاء البلاد، بجمهور متذوق وأعمال غنية وخصبة، ولخرج المسرح المصري من العزلة التي تلفّه منذ زمن.
لكنّ أحداً لا يسعه أن ينكر أن “مهرجان التجريبي” كان طوال السنوات الماضية بؤرة للتفاعل وفضاءً للقاء والحوار والاطلاع على تجارب عربية وعالمية رائدة، ساهمت في فتح آفاق جديدة للمسرحيين المصريين. ولا أحد يستطيع أن ينكر أننا ندين الى تلك التظاهرة ـــ أياً كانت سيئاتها المفترضة، والخلفيات السياسية وراء تنظيمها ـــ باكتشاف عدد من المخرجين والكتّاب المميزين في مصر، أمثال حسن الجريتلي وناصر عبد المنعم وأحمد العطار وانتصار عبد الفتّاح...
المؤكد أن أداء القطاع العام ليس في أفضل حالاته. يكفي للتأكد من ذلك استعادة الظروف الفظيعة التي أحاطت بموت عشرات المبدعين الشباب والمكرسين في حريق أحد المسارح في بني سويف (محافظة الفيوم) قبل عام كامل. كان ذلك في الخامس من سبتمبر، موعد العرض المشؤوم والأخير لمحسن مصيلحي وبهائي الميرغني وحازم شحاتة ومدحت أبو بكر ومزار سمك وصالح سعد والآخرين... عاماً بعد “المحرقة” نحيي ذكرى هؤلاء، ونسأل: هل تخرج الحياة الثقافية عن النطاق العام اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً و... حضارياً؟
بيار...