بروكسيل ــ طه المراكشي
عام مرّ على رحيل أحد كبار سفراء الأدب العربي في فرنسا، الشاعر والباحث والمترجم جمال الدين بن الشيخ. هذا المثقف، هذا الجزائري الرفيع، المولود في الدار البيضاء (1930)، عمل طوال حياته على التعريف بالأدب العربي في أرقى الجامعات الفرنسية. درّس “الأدب العربي في القرون الوسطى” و“الأدب المقارن” في جامعة السوربون، وأنشأ في “كوليج دو فرانس” تجمعاً للبحث في حكايات ألف ليلة وليلة، تكلّل بوضع كتاب “ألف ليلة وليلة أو الكلمة الأسيرة” (عن دار غاليمار، 1988) الذي نقله إلى العربية الأديب المغربي محمد برادةولأن الحواشي لا تعلو على المتون، فقد أهدى بن شيخ الى الثقافة الفرنسية كتاب “ألف ليلة وليلة” الذي ترجمه مع صديقه المستعرب الفرنسي أندري ميكيل. كان ذلك تتويجاً لمسار في مجال الترجمة غاية في الثراء. إذ نقل إلى لغة موليير مقاطع أساسية من مقدمة ابن خلدون، وترجم خمريات أبي نواس وأشعار المتنبي. ومن الموروث الإسلامي، ترجم قصة الإسراء والمعراج التي صدرت بطبعة فخمة ومزينة عن المكتبة الوطنية في باريس. لم يكتف صاحب “الشعرية العربية” (غاليمار، 1989) بالتعريف بالأدب العربي في أوساط الفرنسيين، بل تخرجت على يده أجيال من الكتّاب والباحثين العرب، من الروائي والشاعر اللبناني رشيد الضعيف الذي قدّم بن شيخ مجموعته الأولى “حين حلّ الصيف على السيف” وصولاً الى الشاعرة سهام بوهلال صاحبة “القصائد الزرقاء”.
وجدت بوهلال (الدار البيضاء، 1966) نفسها، طوال مرحلة تحصيلها الأكاديمي في باريس، مشدودةً إلى درس النصوص المؤسِّسة للثقافة العربية. وهذا وحده كان كافياً لاكتساب صداقة أستاذها جمال الدين بن شيخ الذي أشرف على درس جوانب اللطف واللباقة والتندّر في التراث العربي القديم. ثم عملت ــ تحت إشرافه أيضاً ــ على ترجمة كتاب “الموشّى” لأبي الطيب الوشّاء (دار غاليمار). وجاءت الترجمة لتغني سلسلة “معرفة الشرق” التي صدرت ضمنها عن الدار المذكورة، وتضم السلسلة مراجع رفيعة كـ“رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري، و“رحلة ابن بطوطة”...
وعبّر هذا المشروع عن وفاء سهام بوهلال لأستاذها الذي فهم أهميّة الترجمة في تقريب الثقافة العربية من القارئ الغربي. ولأن الأخبار التي تصل اليوم من العراق غالباً ما تأتي مضرّجة بألوان الدم والدمار، فإن سهام وفِّقت في اختيار كتاب نجا من الدمار الذي تلا إحراق عاصمة الخلافة العباسية في القرن الثالث عشر الميلادي على يد هولاكو. وهو الدمار الذي أودى بالكثير من مدّخرات الكتابة والتأليف التي كانت تعج بها بغداد. وهي تقترح من خلال ترجمتها استعادة لحظات رفيعة من عوالم بغداد الزاهرة، ومن أحوال مجتمعاتها الراقية في القرن العاشر الميلادي. نساء ورجال ظرفاء ومتأدّبون مشذّبو الأذواق يتقنون فنّ العيش. وتوضح سهام بوهلال: “الكتاب من المراجع النادرة التي وصلتنا في موضوع الظرف الذي يعالجه الوشاء من خلال فضيلتي الأدب والمروءة، ويجعل العشق عموداً له... إضافة إلى الفضائل والقيم الكونية التي يحتفي بها كالصداقة والحب والتعفّف في المحبة والوفاء والبشاشة والصبر”.