strong>إنها حكاية استيلاء كاتبة إسرائيلية على أبحاث الفنّان كمال بلاطة في مجال تأريخ الفن الفلسطيني، لتعيد نشرها في كتاب يحمل اسمها. من قال إن السطو الإسرائيلي يقتصر على الأرض فقط؟
القدس المحتلّة ــ نجوان درويش

“الانتحال”، “التحريف” “الاستيلاء على الرواية الفلسطينية” عناوين قضية أعادت الى الواجهة موضوع السرقات الإسرائيلية في الحقل الثقافي الفلسطيني، سرقات تغطي عليها عادة الجرائم السياسية الكبرى لإسرائيل... بدأت الحكاية عندما قامت الباحثة الإسرائيلية غانيت أنكوري، أستاذة تاريخ الفن في الجامعة العبرية في القدس المحتلة والأستاذة الزائرة في جامعة هارفارد، باستخدام أبحاث كمال بلاطة عن الفن الفلسطيني (نُشرت في الموسوعة الفلسطينية)، وبنسب مضمونها لنفسها في أطروحة صدرت هذا العام في لندن بعنوان “الفن الفلسطيني”. “هذه ثقافة اعتادت السرقة. حتى نشيدهم الوطني لحنه مسروق. فالمصادر الصهيونية كلّها تفيد بأنه لمؤلف مجهول، لكنه في الحقيقة لحن من مقطوعة “ما فلاست” لموسيقي تشيكي يُدعى بدريتش سميتانا” قالها الفنان الفلسطيني كمال بلاطة بسخرية مريرة كأنه يريد أن ينهي الحديث عن صدور هذا الكتاب.
لم يستطع بلاطة النظر إلى كتاب أنكوري بعد صدوره، تماماً كما كان يعجز عن النظر الى حبة برتقال فلسطينية مكتوب عليها “اسرائيل” خلال تجواله في السوق طوال ربع قرن عاشها في واشنطن... قبل أن ينتقل الى فرنسا. إذ من الصعب أن يرى فنان بحساسيته، عصارة حياته الفكرية في كتاب يحمل اسم أكاديمية إسرائيلية!
الفن الفلسطيني قبل 1948
بدأت القصة قبل أشهر من نشر الكتاب عندما اضطرت أنكوري ـ قبل تسليم كتابها للمطبعة ـ أن تطلع بلاطة على مسودة الكتاب كشرط سبق واشترطه عليها لإجراء سلسلة من الحوارات عن تجربته الفنية وعن تاريخ الفن الفلسطيني. وكانت أنكوري اختارت كمال بلاطة مع أربعة فنانين فلسطينيين آخرين لتعدّ فصلاً مستقلاً عن تجربة كل واحد منهم، من بينهم منى حاطوم والراحل اسماعيل شموط.
ما حدث أن أنكوري، بعدما حاولت التملص من إطلاع بلاطة على مخطوطة الكتاب، رضخت أخيراً لإصراره وأرسلت له الفصول الثلاثة الأولى. “فوجئت حقاً وأنا أقرأ هذه الفصول. لم تصدّق عيناي شبكة الحيل الكتابية التي سخّرتها أنكوري لإخفاء المصدر الحقيقي لما أتت به من تفاصيل مختلسة من دراساتي”. ويضيف الفنان الفلسطيني: “بواسطة هذه التفاصيل، حيكت أطروحة الكتاب المنحولة برمّتها، من الأطروحة المركزية التي قضيت ثلاثة عقود من عمري في تجميع تفاصيلها والتدقيق في صحتها قبل نشرها”.
بعدها بدأ “صراع” بلاطة من أجل كشف السرقة. كتب للناشر رسالة توثّق للمقاطع المنتحلة في الكتاب مقارناً إياها بالمرجع الأصلي في دراسات بلاطة. كما أرسل نسخة من الرسالة إلى جامعة هارفارد وإلى بعض الأوساط الأكاديمية والفنية، ما جعل الناشر يجمّد بدوره إصدار الكتاب، طالباً من “كاتبته” إجراء “تعديلات” حتى يتمكن من نشره. وبالفعل أجرت أنكوري التعديلات المطلوبة، لكنها لم تعترف فيها بمصدرها المُغيّب، بل أمعنت في التمويه والتضليل المحكم لكل أثر مباشر يكشف العلاقة الحقيقية بعمل بلاطة... كأنها مقاول صهيوني يحاول محو آثار قرية.
تلقّف بعدها الإعلام هذه القضية، وراحت أنكوري تعطي أحاديث صحافية ـ أوّلها كان لموقع “الجزيرة نت” بالإنكليزية ـ عن كتابها “الرائد” الذي اعتبرته “أول كتاب” سيخرج الى النور عن الفن الفلسطيني. ونظراً الى أنّها “إسرائيلية نافذة” تجنّبت وسائل إعلام غربية (وعربية أحياناً) تغطية القضية. وسرّب أحد الفنانين الفلسطينيين المقرّبين من أنكوري، أن محاميها هدّد صحيفة “هآرتس” برفع قضية ضدها إذا تطرّقت الى الموضوع. بل وصل الأمر بأنكوري الى التصريح بأنّها قد “تقاضي” الفنان كمال بلاطة، لأن إثارته موضوع الانتحال أضرّت بسمعتها الأكاديمية! بدت واثقة أن بلاطة، الفنان الأعزل إلا من ثقافته، لن يستطيع فعل شيء أمامها... إنّها استعارة نمطية للصراع كلّه: إسرائيلية تنتهك بوقاحة، وفلسطيني لا يملك إلا أن يقاوم.
بعد ذلك، ظهرت مقالات متضامنة مع بلاطة في صحف عربية وفلسطينية، وبعض مواقع الانترنت والمدوّنات الشخصية، وهي على أهميتها بدت غير كافية بل مخجلة. فالسرقات الإسرائيلية في المجال الثقافي تكاد تصبح أمراً “عادياً”. والطريف أن هذه السرقات أخذت تصدر في الآونة الأخيرة عن “مناضلين” إسرائيليين يدّعون أنهم يدافعون عن الحقوق الفلسطينية. فالكاتب العبري سامي ميخائيل صدم كثيرين عندما انتحل رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” في روايته “حمائم في ترافلغار”. ثم قال في حوار صدر ضمن ملحق صحيفة “هآرتس” إن كل ما فعله كان تقديم رؤيته الخاصة للرواية، أي انه صاغها من جديد لأن كنفاني لم يحسن كتابتها! وهو لا يرى انتحالاً في ما قام به، ويكفي أنه يشير إلى غسان كنفاني في حواراته!
ميخائيل هو نفسه الذي شاهدناه في الفيلم الوثائقي “انس بغداد”، وهو يقول إنّه عاش حياته في مواجهة إسرائيل، فإلى أي مدى تراه ابتعد عن الايديولوجية الصهيونية إذ تعامل مع نص لكاتب فلسطيني بحجم كنفاني كأنه أغنية رعوية؟
وبالمنطق نفسه الذي يجد جذوره في “اللاوعي الاستعماري”، تعاملت أنكوري مع المراجع الفلسطينية، وتحديداً أبحاث بلاطة، كأنها مصادر شفهية أو مواد أوّلية لا ترقى في نظرها إلى مستوى المرجع!


بيان الفنانين وماما أنكوري!
قضية السطو على أبحاث كمال بلاطة، عادت الى الضوء بعد صدور بيان رابطة الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، وقد تميّز بموضوعية نأت بنفسها عن الشعارات وعن التضامن الشكلي مع فنان كبير وباحث مرموق يعيش في المنفى منذ عام 1967بعد مراجعة وافية لكتاب أنكوري وتدقيق في نصوص بلاطة، وبغض النظر عن كون مؤلفة الكتاب إسرائيلية الجنسية”، يتهم البيان أنكوري بأنها “لم تلتزم بأدنى قواعد البحث العلمي وغضت النظر عن النزاهة الأخلاقية المطلوبة من أي باحث في موضوع اختصاصه”. وترجم البيان إلى اللغة الانكليزية ووُزّع على نطاق واسع عبر البريد الالكتروني، ونشر على مواقع الكترونية ومدونات، ما أثار القضية من جديد بقوة.
حدد البيان الفصول الثلاثة الأولى التي تتعلق بالتأريخ للفن الفلسطيني الذي يتضمن “تشويهاً متعمداً”، و“تمويهاً محكماً للنتائج التي توصل إليها كمال بلاطة في دراساته الرائدة، وقد وثّق بواسطتها مختلف الثوابت المتعلقة بحيثيات ولادة فن التصوير في فلسطين منذ بدايات القرن التاسع عشر، وتحليل ما حدث لهذه الولادة إثر وقوع النكبة واقتلاع المجتمع الفلسطيني”. ويضيف الفنانون الموقّعون على البيان أنه “بعد المسخ والتحريف الملتوي لما ورد أصلاً في دراسات كمال بلاطة، والاستشهاد الانتقائي ببعض منها بما يتناسب مع غرض المؤلفة الإسرائيلية تارة، ومع ضرورة تزوير مصدرها الأصلي أو حجبه بالكامل تارة أخرى، قامت في هذه الفصول الثلاثة بتقديم أطروحة وتحاليل ومفاهيم سبق أن بلورها بلاطة في دراساته، وقدمتها أنكوري كما لو أنها كانت نتيجة اجتهادها الخاص”.
وتأتي الفقرة الأخيرة من البيان لتسدد ضربة قاضية الى “البروفسورة الإسرائيلية” التي ما انفكت تتبجح بـ“أمومتها” للفن الفلسطيني، “نحن في رابطة الفنانين الفلسطينيين نرفض إهداء الكتاب الى الفنانين الفلسطينيين، ونطالب صاحبته بالاعتذار عن تعديها على حقوق الملكية الفكرية للفنان والباحث كمال بلاطة”.