محمد خيرلم يكن غريباً أن يحيي عبد الرحمن الأبنودي أمسية شعرية الأسبوع الماضي في الضاحية الجنوبية لبيروت، وتحديداً في المربّع الأمني! فشاعر العامية المصري لا يمكن أن يكتفي بزيارة تلفزيونية إلى بيروت، علماً بأنّه هذا المساء ضيف رابعة الزيات في برنامج «سجال» (على NBN). من يعرف الأبنودي جيداً توقف منذ زمن عن الشعور بالدهشة من مواقفه. فعندما يستقر الظن بأنه الأقرب الى السلطة، يفاجئ الجميع بتصريحات نارية ضد النظام. وعندما يتحمس الشبان لتصريحاته، يجدونه ملتزماً بكتابه “أوبريتات انتصارات أكتوبر” و“الطلعة الجوية”. لذا، لا تتوقع شيئاً منه، فقط اقرأ أو اسمع أشعاره... واستمتع. في لحظة تحالف فيها الزمان مع المكان، ولد عام 1941 في صعيد مصر أربعة عظماء هم: عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل وعبد الرحيم منصور ويحيى الطاهر عبد الله. إلا أنّ السبل تفرّقت وخيارات الكتابة ايضاً! لكنّ الأبنودي بقي “المغنواتي” الأعظم في التاريخ المصري. ومن يكتفي بربطه بعبد الحليم حافظ ووطنياته (“عدى النهار” و”المسيح” و”احلف بسماها وبترابها”) في أواخر ستينيات القرن الماضي، لا يعرف أن الأبنودي كتب لشادية (“آه يا اسمراني اللون”)، فايزة أحمد (“يمّا القمر ع الباب”)، نجاة الصغيرة (“عيون القلب”)، صباح (“ساعات ساعات”) ووردة الجزائرية (“طبعاً أحباب”) ومحمد منير (“كل الحاجات بتفكرني”).
الطفل الصغير الذي كان يجلس وسط الرجال في ليالي الصعيد الحارة، كان يستمع منبهراً إلى حكايات السيرة الهلالية ينشدها شاعر شعبي، فاستقر في وعيه أن الشاعر لا بد من أن يسلب الأبصار والقلوب. هكذا، تكوّنت كاريزما الأبنودي بين قصائده التي يحب الجمهور أن يسمعها أكثر من قراءتها: من “جوابات حراجي القط” التي يرسلها العامل في السدّ العالي إلى زوجته، إلى تحذيراته في “المشروع والممنوع” من أخطاء اليسار، وصولاً إلى تمجيده المثير للجدل لاغتيال السادات في “المتهم”.
منح الأبنودي معنى جديداً لأغنية الدراما التلفزيونية مع مسلسل “أبو العلا البشري”، وللأغنية السينمائية في“البريء” (1986)، ولكتابة السيناريو والحوار في فيلم “شيء من الخوف” (1969)، وللأغنية الشعبية مع محمد رشدي في “عدوية” قبل أن يستقر على مشروع جمع السيرة الهلالية.
الأبنودي اليوم مكتئب من المناخ العام، يستعيد الماضي الذي كان فيه شاباً صعيدياً فقيراً، أرسل أشعاره بالبريد إلى صلاح جاهين من دون سابق معرفة. لم يكتف جاهين بنشر القصائد في “الأهرام” آنذاك، بل أرسل اثنتين منها إلى الإذاعة لتبدأ تلحينها وتسويقها. الأغنيتان هما “بالسلامة يا حبيبي” لنجاح سلام و“تحت الشجر يا وهيبة” لمحمد رشدي في أواخر خمسينيات القرن المنصرم.