تعود مسألة حرية التعبير في تركيا إلى الواجهة، مع محاكمة الكاتبة أليف شفق اليوم في اسطنبول، بتهمة «شتم القومية التركية» التي سبق أن طالت عشرات الكتّاب في بلاد ناظم حكمت وياشار كمال.
رلى راشد

تمثُل الروائية التركية أليف شفق اليوم أمام المحكمة في اسطنبول، بعدما “سمحت” لإحدى شخصيات روايتها الأخيرة “لقيط اسطنبول”، المكتوبة أصلاً بالإنكليزيّة، بالتطاول على “المحرّمات”: أي الحديث عن “المجزرة” التي ارتكبتها تركيا بحق الشعب الأرمني في القرن الماضي (1916 - 1917وهكذا، تنضم شفق الى قافلة الكتّاب المغضوب عليهم في بلاد الأناضـــول... وكان آخرهم أورهان باموك الذي أثارت قضــــيته ضـــــجّة واسعة في العالم قبل أشهر قليلة... وقبل سنوات أدخل الكاتب الكبير ياشار كمال السجن، بسبب إدانته للقمع الذي تتعرض له الأقلية الكردية.
وها هي المواجهة بين السلطة والمدافعين عن حرّية التعبير، تحتدم مجدداً بسبب ما تتعرض له اليوم أليف شفق التي قد تسجن حتى ثلاث سنوات، بسبب روايتها السادسة “لقيط اسطنبول”. والرواية التي تمتد أحداثها على رقعة جغرافية واسعة، من اسطنبول إلى سان فرانسيسكو، وتتمحور حول أربع نساء تركيات وعائلة أرمنية ـ أميركية، حققت ترجمتها التركية نجاحاً كبيراً منذ صدورها في شهر آذار الماضي، إذ بيع منها حتى الآن 60 ألف نسخة.
سور المحظورات
تنتمي شفق (35 عاماً) الى جيل جديد، مزدوج الثقافة، مزج بين التقاليد والإرث العثماني من جهة، والأنماط الأوروبية من جهة أخرى. وهذا الجيل احتلّ موقعه أخيراً على الساحة الثقافية، بعدما لجمت الإيديولوجية الوطنية طويلاً تعدد الثقافات في تركياوترفض شفق، المولودة في فرنسا الامتثال للقوالب القومية، ولا تتوانى في أدبها عن استخدام مصطلحات عربيّة وفارسيّة نبذها المحافظون من “قاموس” الجمهورية. وقد تدافعت دور النشر على ترجمة أعمالها، بين روائيين آخرين، دخلوا دائرة الضوء بعد صعود نجم الروائي أورهان باموك الذي برز في الغرب، حاملاً لواء حرية التعبير. وها هي شفق بدورها ترزح تحت وابل الانتقادات وحملات التجريح، وتعاني بعض ما كابده مواطنها باموك قبل عام، عندما اصطدم بسور المحظورات في بلاده.
وبعد شفق، من المتوقع أن تساق الى المحكمة بعد شهر الصحافية والكاتبة الاسطنبولية ايبك كاليسلار، لأنها جرؤت في “لطيفة هانم” على التطاول على هالة أتاتورك المقدسة. تكشف في كتابها المخصص لسيرة زوجة الأب المؤسس للجمهورية التركية، عن حادثة تَخفّي “أبي الأتراك” عام 1923، بزيّ امرأة بغية مغادرة منزله المُحاصر من مجموعة انقلابية.
فعل ندامة جماعي
المعركة التي تخوضها شفق اليوم مع القضاء، تعيد الى الأذهان التجربة الصعبة التي خاضها باموك مع سلطات بلاده، إثر حديث أدلى به الى صحيفة سويسرية. لقد اعترف بمســـــؤولية بلاده في إبادة ثلاثين ألف كردي ومليون أرمني وكان لكلامه يومذاك وقع “فعل ندامة جمـــاعي”. فكان أن اتّهم صاحب رواية “إسمي أحمر” (ترجمتها العربية صدرت عن «دار المدى» في دمشق عام 2000) بخيانة وطنه، وبالإساءة الى الهوّية التركية.
واستمرّت معاناته مع القضاء أشهراً طويلـــــة... ثـــــم جـــــــاء فوزه بجائزة “ميديسيس” الفرنسية آنذاك، عن روايته “ثلج” (2002)، ليزيد التشكيك في وطنية كاتب، خصص جل أدبه، منذ سبعينيات القرن الماضي، لتسجيل وقائع الحياة في اسطنبول، المدينة التي يحرّكها الشجن.
في “ثلج” (صدرت بالعربية عن “دار الجمل” في ألمانيا) يعود شاعر مغترب من فرانكفورت الى المدينة التي تختزن عظمة أمبراطورية آفلة، ليتورط في مكيدة سياسية. وفي “اسطنبول: ذكريات مدينة” (2003) يستعيد باموك، من خلال تجارب عائلته، تلك المدينة التي أطلقت العنان لخياله ليعاين تبدّل جلدها لتستحيل عاصمة عصريّة.
حين قـــرر القضاء التركي عدم المضيّ في محاكمة باموك، تفادياً لجفاء محتمل مع الاتحاد الأوروبي الذي تسعى تركــــيا جاهدة الى الالتحاق به، تـــنــــفّس الكاتب الصعداء، ومعه كل المهتمين بمستقبل حرية التعبير.
لكن باموك لم يُشفَ تماماً من هذا الامتحان الذي ترك بصمات واضحة على مشروعه الأدبي. إذ صرّح لاحقاً أن ذلك الفصل أقض مضجعه وخلّف ذيولاً في كتاباته، فهل تواجه أليف شفق العوارض نفسها وهي خارجة غداً من قاعة المحكمة؟