باريس ــ بسّام الطيارة
سمح الفارق الزمني بين توقيت نيويورك وتوقيت باريس للصحافة الفرنسية بأن تغوص في تحليل خطاب الرئيس الفرنسي جاك شيراك أمام الأمم المتحدة. ويتفق الجميع على أن أهمية هذا الخطاب ليست بما جاء به من «أفكار لا يمكن وصفها بأنها جديدة»، بل لكونه، على الأرجح، آخر خطابات الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته من منبر المنظمة الدولية.
ففرنسا مقبلة على انتخابات رئاسية يستبعد أن يشارك فيها شيراك مباشرة؛ فهو فقد السيطرة على حزبه، «تجمع الحركة الشعبية»، الذي أمسك بجهازه وزير داخليته نيكولا ساركوزي. وهناك إجماع على أن شيراك لم يحقق أياً من وعوده الانتخابية في مجال السياسة الداخلية.
لم يبق له إذاً إلا السياسة الخارجية، وهي «الحقل المخصص لرئيس الجمهورية، بحسب الأعراف المتبعة هنا». وشيراك يفضل السياسة الخارجية على السياسة الداخلية، ويحب أن يرى نفسه في «لباس شارل ديغول».
وكان الاستقطاب الإعلامي الذي لاقاه «خطابه الأخير أمام كبار العالم» مناسبة لإجراء جردة حساب بما نجح وما فشل. ويتفق الجميع على أن نجاح جاك شيراك يمكن تصنيفه فقط في باب «الخبطات» الباهرة إعلامياً، والفاقدة لأي نتيجة ملموسة في ميزان المصالح العليا لفرنسا. وبالطبع يأتي الشرق الأوسط كخانة أولى لفحص ما حققه أو لم يحققه «آخر رئيس ديغولي لفرنسا». وصورة شيراك في شوارع القدس المحتلة، وهو يدفع رجل أمن إسرائيلياً خلال أول زيارة له إلى المنطقة العام ١٩٩٦ بعد انتخابه، هي أبرز معلم من معالم سياسته المترددة في الشرق الأوسط؛ فقد دارت هذه الصورة على أقنية التلفزيون العربية والعالمية وألهبت مشاعر «الشارع العربي» الذي رأى فيه «من يستطيع أن يقف في وجه القوة الأحادية» التي تمثلها أميركا، وعودة لفرنسا لأداء دور في الصراع العربي ـــ الإسرائيلي.
غير أن السياسة الفرنسية توقفت على عتبة الصورة الإعلامية فقط، وعجزت الديبلوماسية الفرنسية عن إيجاد دور لها في محاولات حل النزاع. وأثبتت ديبلوماسية شيراك عجزها عن التأثير على واشنطن مع بدء الانتفاضة الثانية وتخليها عن دورها لما بات يعرف باللجنة الرباعية، واصطفت على رصيف خريطة الطريق، ثم وقفت موقف المتفرج خلال محاصرة «عرفات في المقاطعة»، واكتفت باستقباله على سرير الموت في مستشفى القوى المسلحة لتودع جثمانه على سجادة حمراء.
وفي لبنان، الذي طالما اعتبرته باريس «البلد الصديق»، لم يكن لوصول شيراك تأثير نوعي على ما اعتاد لبنان أن يحظى به من مساعدة فرنسية، إن كان على الصعيد الإنساني أم على صعيد العلاقات الاقتصادية أو الثقافية.
أما على الصعيد السياسي، فكانت الديبلوماسية الشيراكية ذات طابع سطحي في ما يخص الأساسيات السياسية، وكانت مرتبطة مباشرة بالعلاقة الشخصية بين جاك شيراك والرئيس الشهيد رفيق الحريري. وهذا ما سمح بإطلاق «باريس ١» و«باريس ٢» والتحضير لـ «بيروت ١» لمساعدة لبنان.
إلا أن شيراك لم يضع سياسة واضحة لديبلوماسيته إلا التأرجح. فهو عارض بشدة غزو أميركا للعراق قبل أن يعود ويعترف بالاحتلال تحت تسمية القوات الدولية. وهذا ما حصل أيضاً بالنسبة إلى لبنان، فهو في سياق استمالة رضى الأميركيين بعد ممانعته في العراق، لحـــق بالســــياسة الأميــــركية وجعل من نشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل «هــــدف سياسي» أول في المنطقة.
ويقول بعض منتقدي الرئيس الفرنسي إنه «بعد اغتيال الرئيس الحريري، انتقلت قضية لبنان من الحقل الديبلوماسي إلى قضية شخصية»، وضعت آفاق المصالح الفرنسية البعيدة المدى في أتون الرياح التي تعصف على المنطقة وتتجاذبها.
ويتابع منتقدوه أنه بهذه السياسة «المتأرجحة منع فرنسا من المحافظة على رأسمال التعاطف العربي»، من دون أن يأخذ من إسرائيل أي مكسب، ولو بصورة دور مؤثر في قضايا المنطقة.