strong>«كيف بدّي وقّف تدخين» عنوان لا علاقة له بالعرض الذي قدّمه ربيع مروّة في إطار «أيام بيروت السينمائيّة»، وفيه يمضي في استفزاز الجمهور جمالياً وفكرياً، أخلاقياً وسياسياً...
بيار أبي صعب

من غير المجدي أن تبحث في عرض ربيع مروّة الجديد عمّا يفسّر عنوانه: «كيف بدّي وقّف تدخين». ها أنت فريسة الوجع والحيرة، أمام خليط هائل من المواد الأرشيفية، تستحيل تحت أنظارك عملاً فنياً يصعب تصنيفه. تخرج منه وقد اختلّ توازنك، تحاول أن ترتب الأفكار والصور، وأن تجد علاقات منطقية بين كل ما سمعت ورأيت.
ربيع مروّة؟ ليس هناك إلا طريقة واحدة للتعاطي معه: أن تتركه يأخذك حيث يشاء، أن تستسلم لكلماته وصوره. لا بد أن تجد ضالّتك في لحظة ما، بعد أن يستبدّ بك الدوار، من كثرة ما سمعت ورأيت، من كثرة ما تم استفزازك جمالياً وفكرياً، أخلاقياً وسياسياً...
ليست مسرحية، إنها محاضرة. هذا القالب الفنّي الذي بنى عليه مروّة ـ عند الحدود القصوى للمسرح ـ بعض أجمل عروض الخشبة اللبنانية والعربية في السنوات الأخيرة. طاولة إلى يمين الخشبة، يجلس إليها الفنان ليتكلّم بصيغة الأنا، عليها ضوء وميكروفون وكمبيوتر. الأشياء لا تحدث على الخشبة تماماً، بل على شاشة تتوسط المسرح. كأي “محاضر” يحاضر ربيع، ومثل محرك الدمى في خيال الظل، يحرك على الشاشة صوراً ووثائق وكلمات مختلفة الأشكال والأحجام، وعناصر غرافيكية أخرى. إنها «بيرفورمانس»، تتقاطع فيها العناصر وآليات «المشاهدة»، فيترك «التمثيل» مكانه «للغرافيك»، و«الروائي» مكانه «للتسجيلي»... ليعود فينتظم في سياق متخيّل.
«كيف بدّي وقّف تدخين» عرض بالصوت والصورة. كل شيء في الصورة، في اختيارها وطريقة استعمالها والتلاعب بها وتوليفها، واختبار قدرتها على أن تصدم الوعي، أو تعاقب الذاكرة. راكم الفنان كمية غريبة من الصور والأفلام والقصاصات والوثائق التي يخرجها كالعادة من جعبته السحرية، في واحدة من التوليفات التي يملك سرّها. سعد (هاملت) الحريري أمام شبح الأب القتيل، لكنّه لا يراه ربّما “لأن المدينة ملأى بالأشباح”. سيغموند فرويد في جبّة حزب الله. ابتسامة الاستشهادية الشيوعية وفاء نور الدين في رسالة الفيديو التي سجّلتها قبيل تنفيذ عمليتها، أيام زمان “قبل أن تصبح “المقاومة الوطنية” العلمانية حكراً على طائفة وحزب ديني”. مقاتلون من الدروز ينتشون أمام الكاميرا خلال مجازر حرب الجبل: “بس إذا بفرجيكم شو عملنا ببعضنا كلبنانية”.
إنها محاولة “مشبوهة” لمواصلة ذلك المشروع الأركيولوجي الذي يتميّز به جيل ربيع مروّة. جيل لم يُشفَ من الحرب الأهــــليّة، ويمضي ناكئاً السكين في جراحها الجماعية. يحاول أن يفهم، يســــعى إلى فضح المســــكوت عنه في بلد التكــــاذب والمعادلات الطــــــــائفية الهشّة. من هنا التركيز شبه المرضيّ على الذاكرة والنسيان، الاعتراف والاعتذار، الذاتية والموضوعية، الامحاء والاختــفاء، الماضـــــي والمستقبل، وكلها عـــــناصر محورية فـــي أعمال ربيع مروّة ـ منــــفرداً أو مـــــع لينا صانع.
يخبرنا ربيع منذ البداية أنّه سجين أرشيفه، ونفهم أنه مصاب بهوس الأرشفة: لعلّه الخوف من العدم. وبعد الجهد الذي تبذله كي تجمعها وتحفظها، تصبح تلك المادة عبئاً عليك. فالأرشيف لا يتبدّل، يقول مروّة، فيما الذاكرة تعدّل محفوظاتها من دون الرجوع إلى صاحبها. ولا يعود من طريقة للتخلّص من هذا العبء سوى تحويله إلى أعمال فنية. هكذا يفتح لنا الفنان الشاب كواليس العملية الإبداعية لديه. يخبرنا ولعه بالعناوين التي يحتفظ منها دائماً بقائمة قد تصلح للأعمال المقبلة، هو الذي أضاع وقتاً طويلاً قبل أن يفهم أن العنوان لا علاقة له بالضرورة بالنصّ أو العمل الذي يتصدّره. نفهم أكثر طريقة عمل مروّة الذي يقترب أحياناً من بيتر فايس والمسرح التسجيلي. ألم يستعد في “من يخاف الممثل؟” (2005) قصة الموظف الذي حمل ذات يوم أسلحته ليقضي على زملائه في المكتب؟ ألم يستعد في “البحث عن موظّف مفقود” (2003) الوقائع الغريبة في اختفاء موظف فئة رابعة من مكتبه في وزارة المال ذات يوم من أيلول 1996؟
يروي لنا في “محاضرته” فصولاً من تجاربه ومحاولاته الإبداعية، أعمال أنجزها وأخرى بقيت في الأرشيف، نص فذ لجلال توفيق عن أرشفة الفيديو كمصادرة للحق في النسيان، رسالة إلى وزارة الثقافة للمطالبة بدعم لإنتاج مسرحية لم تر النور، عن نص لرشيد الضعيف. فيديو لبيروت أيام زمان، فيلم تحريك يسجل امحاء صورته الشمسية. سجّل محاولاته الفاشلة: عمل مثلاً على مشروع لأرشفة فتحات المجارير في العالم، لكنه اكتشف أن هناك من سبقه إلى ذلك، ثم صرف النظر عن مجارير بيروت لأسباب أمنية، وفضّل اللمبات التي جعلت رأسه مرفوعاً.
ولعل العرض يبلغ ذروته عندما يعرض ربيع نصاً بعنوان “أنا الموقع أدناه”، يعتذر فيه عن أشياء كثيرة، في ظل غياب أي اعتذار من قادة الحرب وأسيادها. في مشهد آخر يقول إنه يخبرنا كل ذلك لا ليتذكر، بل ليتأكد من أنه نسي... وعندما يبذل جهداً ليتذكر، إذا به يعيد تأليف الأشياء التي نسيها... وفي هذه الأثناء تعبر على الشاشة لقطة لمنزل ينهار في انفجار، قبل أن تعرض اللقطة معكوسة فيقوم المنزل من جديد. وهكذا دواليك هدم فانبعاث، في إيقاع متسارع. إنّها العملية الفنية بامتياز: تشريح الخراب، وترميم افتراضي لوطن ضائع، لزمن ينهار.



أنا الموقّع أدناه أعتذر عن جهلي بالكثير من معاني الكلمات وجهلي المطبق بمفاهيم كنت أحارب من أجلها. كما أعتذر عن عدم اطلاعي على أي من الكتب والنظريات والأشعار التي ما زلت أدعي معرفتها. أعتذر لاعتباري أن الحرب الأهلية لم تكن حرباً طائفية، بل حرباً طبقية فقط. أعتذر لأنني أطلقت الرصاص ابتهاجاً بانتصار البرازيل على ألمانيا. أعتذر لأنني وافقت على أن أكون مرافقاً مسلحاً لوفد ديبلوماسي سوفياتي قدم إلى بيروت لبضعة أيام ونزلت معهم في فندق البوريفاج.
أعتذر لأنني وافقت على أن أتسلم مدفع هاون من دون أن أتدرب عليه أو أعرف كيفيـــة استـــخـــدامه. أعتذر لأنني وافقت على الذهاب إلى كوبا لمدة شهر للمشاركة في دورة عــــسكرية لـــفصائل حرب الشوارع. أعتذر عن رضوخنا للضغوطات التي جعلت المقاومة ضد الاحتلال الإســــرائيلي حقاً حــصرياً لحــزب الله. أعتذر لأنني فخور بلبنانيتي وفي الوقت نفسه أطمح للحصول على الجنسية الكندية.
كما أعتذر لأنني خلال الحرب لم أتعرض لأية إصابة جسدية، لم يخطفني أحد، لم استشهد ولم أتعرض لأي محاولة اغتيال. أعتذر لأنني في بعض الأحيان أسرق قصص ونصوص الآخرين وأضعهم على لساني. أعتذر لأنني أحب الكذب واللعب، من دون اعتبار لمشاعر الآخرين. أعتذر لأنني أعمل في مهنة لا أحبها. وأود أن أوضح أن هذه ليست اعترافات، كما أنها ليست اعتذارات... إنها مجرد كلمات، كلمات، كلمات...
الإمضاء ربيع مروة
(مقاطع من أحد المشاهد)