بيار أبي صعبلم يأت الموسيقي المعروف الى بيروت لتقديم
آخر أعماله «رحلة سَحَر». ترك عوده في تونس، واستبدل به كاميرا فيديو. جاء محملاً بالأسئلة ليعاين الخراب العظيم. عمّ يبحث أنور براهم في بيروت؟

في باحة مسرح كركلا (إيفوار سابقاً)، أطالت الصبيّة النظر إلى صاحب القميص «البيج» الأربعيني الأنيق، المنزوي قرب البار، وترددت كأنها أمام وجه تعرفه. “هذا الرجل... كم يشبه أنور براهم!” همست لصديقتها. من الواضح أن تلك الشابة التي جاءت الى ختام “أيام بيروت السينمائية” هاوية جاز، ولعلها حضرت احدى الحفلات التي أحياها الفنان المذكور في بيروت أو بعلبك أو باريس أو أي مكان آخر. لكن أحداً لم يقترب ليقول لها: أصبت، إنه أنور براهم شخصياً. فنان يصعب تصنيفه، إن على خريطة الموسيقى العربية المعاصرة، أو في مجال موسيقى الجاز التي بات من رموزها المعروفين عالمياً...
أنور براهم في بيروت، لكن من دون عوده هذه المرة! لقد جاء يبحث عن شيء آخر. عن بيروت حتماً؟ عن نفسه ربّما. عن أشياء تستعصي على القول في كل الأحوال. جاء يحمل غصّة اختزنها في حلقه أسابيع طويلة صعبة، من هذا الصيف الدموي الذي أمضاه في بيته في قرطاج، ضاحية العاصمة التونسية العريقة، متنقلاً بين قنوات الفضائيات العربية والأجنبية، أو بين التلفزيون والإنترنت... محاولاً أن يفهم: ماذا يحدث في لبنان؟ وكيف يمكن أن يحدث؟ هذه هي الاجابة التي جاء يبحث عنها على الأرجح، وهو على يقين من أنه سيخرج من زيارته بمزيد من الأسئلة، ومزيد من الحيرة.
صاحب «حكاية حب لا يصدق» ترك عوده في تونس. استبدل به كاميرا فيديو. واستعاض عن عازفيه بفريق تصوير تلفزيوني. وأنور ليس غريباً عن السينما، ترك بصماته الموسيقية على بعض الأفلام المعروفة التي تحمل توقيع كوستا غافراس أو جان لوك غودار، فريد بوغدير أو مفيدة التلاتلي أو نوري يوزيد... لكنّه هذه المرّة يقف وراء الكاميرا، يعطي التعليمات، يدرس الكادر بعناية فائقة، ويطرح الأسئلة على مجموعة من الأدباء والصحافيين والفنانين والمبدعين والناشطين في مجالات ثقافية مختلفة. يسألهم عن تلك الحرب: كيف عاشوها؟ وكيف يفهمونها؟ عن أنفسهم وعن علاقاتهم الحميمة بالمدينة، عن مشاريعهم ورهاناتهم وجراحهم السرية. «خلال العدوان كنت أفكر كل يوم في المجيء الى لبنان. أفكر بأصدقائي هنا، بما عساهم يفعلون في لحظة معينة... بالموت الأعمى المحدق بهم». وما ان توقف العدوان الاسرائيلي حتى قفز على متن أول طائرة، برفقة الحبيب بلهادي، صديقه وزميله ومواطنه، اللبناني الهوى، وهو المسرحي والمنتج (شريك جليلة بكار والفاضل الجعابي في «فاميليا») الذي آمن بمشروع الفيلم وتحمّس له. نتذكّر كيف حمل عوده في العام 1998، عشية ولادة ابنته ليلى مع الممثلة صابرية اسكندراني، وصدور أسطوانته «ثمار»، ومضى ليعزف في القدس بدعوة من «مؤسسة يبوس» الفلسطينية. هذه المرّة أراد أنور أن يلتقي أصدقاء أعزاء، أو فنانين وكتّاب يعرفهم، كي يساعدوه على فهم ما جرى: عباس بيضون وإلياس خوري، أميرة الصلح وهانية مروّة، برنار خوري وربيع مروّة، والزميل جوزيف سماحة وكاتب هذه السطور. «أتيت إلى بيروت كي أتطهّر من كل هذا العنف في داخلي... إنّه نوع من العلاج الذاتي على ما أعتقد». يفكر أنور في إمكان تقديم حفلة أو أكثر قريباً في لبنان. لكن أين؟ نسأله. في قاعة مقفلة أم في الهواء الطلق في بنت جبيل؟ يطرق مفكراً، ويؤجل الإجابة الى وقت آخر.
رحلته الى لبنان فيها شيء من «رحلة سَحَر» بطلة أسطوانته الجديدة (ECM). تلميذ علي السريتي المشبع بالموسيقى التراثية التي خرج مبكراً على أطرها التقليدية ليعانق موسيقى العالم، عزف وسجّل أسطواناته مع موسيقيين بارزين، يمارسون أنماطاً مختلفة وينتمون إلى ثقافات متباينة أمثال التركي بربروس إيرزكوزي (كلارينيت)، والنروجي يان غربريك (ساكسوفون)، والبريطانيين جون سورمان (كلارينيت ــ ساكسوفون) ودايف هولاند (كونترباص)، والفرنسي ريشارد غاليانو (أكورديون)، وأخيراً فرنسوا كوتورييه (بيانو)، وجان ــ لوي ماتينييه (أكورديون). معهما ألف الثلاثي الذي اهتدى الى معادلته السحرية قبل أربعة أعوام.
كان ذلك في العام 2002، بعد توقف طال عن التأليف. ابتعد أنور عن عوده وكتب لآلة البيانو. وإذا بنا أمام مقطوعات مسكونة بنغمية شفيفة، قائمة على حوار الآلتين... وكانت النتيجة أسطوانة مفاجئة بعنوان «خطوات القط الأسود»، لا تشبه ما حولها وما سبقها. النبرة الحميمة جعلت منها أنجح أعماله ربّما، وعلى الأقلّ أكثرها تماسكاً، ومقدرة على خلق توازن هارموني وأسلوبي دقيق، بين عناصر متباينة، من الجاز والتانغو والفلامنكو، إلى الموسيقى الهندية والفارسيّة والعربيّة. وقد يتسرّع بعضهم ويرى في تلك الموسيقى تجسيداً لحوار الشرق والغرب. لكنّ براهم تجاوز هذه المرحلة ليحمل شرقه الى العالم أجمع، من دون انشغال في أسئلة الهويّة.
«رحلة سَحَر» هي استمرار لتجربة التريو عود ــ بيانو ــ أكورديون، وقد تصفّت وشفت. فيها «غرناطة» و«حدائق زرياب» و«الحلفاوين» ذلك الحي الشعبي التونسي الذي أبصر فيه النور. يقدم أنور براهم موسيقى تأملية هادئة تستدعي السكينة، وسط عالم صاخب. تماماً كما هي اطلالته البيروتية بعد شهر الجنون والموت. هناك مقطوعة في الأسطوانة بعنوان “فجر” تختزن كل هذا الصفاء الداخلي. بوسع أنور أن يهديها إلى أصدقائه اللبنانيين الذين نقلوا إليه عدوى أوجاعهم وخلافاتهم المحيّرة.