بعد 34 يوماً من العنف والدمار، وآلاف أطنان القذائف، وعشرات المجازر، يبدو المشهد مذهلاً، والكارثة أفظع من مقدرة الكلمات واللغات على التعبير. شعب كامل يصحو من الكابوس، يلتفت حوله ويحاول أن يفهم ماذا حدث له؟ كيف سمح العالم بهذه المذبحة؟ في اليوم الأوّل بعد العدوان ما زال الأنين ينبعث من تحت الأنقاض، والدخان يتصاعد من أرض المجزرة ليرسم غيمة عملاقة قاتمة فوق الضمائر... على شاشة الكومبيوتر نصوص ورسائل وصور ورسوم وصلتنا عبر البريد الإلكتروني، طوال أيّام الحصار الذي لم ينته، من أصدقاء هم الجسر الوحيد المتبقي إلى المستقبل.
بلا“حماس”
يوسف رخا

رسالة صديقي على شاشة الجوّال: “نحن هنا نستمع إلى الطائرات الإسرائيلية” ــ وباللهجة المصرية التي يحبها ــ “ربنا يستر”.
قالت رفيقتي: “الاحتشاد للدفاع عن نانسي غير بيروت. من يعطينا نانسي؟” كانت تضحك، لكن يأساً في صوتها يجاور البكاء. “حقيقة، ماذا يمكن أن يعبّئ الشعب المصري للدفاع عن لبنان سوى نانسي عجرم؟” أومأت. أمسكت بالهاتف مرة أخرى، ثم أزحته ببرود. ماذا يمكن أن يعبّئ الشعب المصري للدفاع عن الأهرام، مثلاً؟
منتصف ليل الزمالك، شاب خليجي يقيمنا ــ ثلاثتنا ــ حتى يجلس وحده إلى الطاولة التي حجزها. مَن غير فيروز تقول “كيفك إنت” في مطعم “أبو السيد”؟ عشاؤنا “الخفيف” سيحرق صدورنا. من الشباك ــ على صوت أذان الفجر ــ أرى بدراً معوقاً بدلاً من قمر شبه كامل. وعلى الإنترنت ــ لم نسمع بما حدث حتى منتصف الليل لأننا بلا تلفزيون ــ جسر مقسوم كأنه مثلث، حفرة هائلة يملأها سائل بنّي، عجوز وطفلان يعبرون أطلالاً. لا أحد ينام في بيروت... حسن نصر الله يقول “نحن مغامرون” والإسرائيليون يؤكدون أنهم سيفعلون أي شيء للحفاظ على “الحياة الإنسانية”.
قبل أسابيع، لم يتردد مبارك في استقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي بعد مقتل مصريين بريئين تماماً برصاص إسرائيلي على الحدود. قال ــ في صدد جندي واحد عند “حماس” ــ: “مأنا كنت حلتها، لكن فيه جهات ضغطت على الحكومة الفلسطينية فانسحبت من التسوية...”.
حين خرج الإسرائيليون من جنوب لبنان، تشاجرت ومدير تحريرنا “اليساري” لرغبته التي رأيتها مبالغة في امتداح حزب الله. أومأت لامرأة منقّبة في لندن. وسلمت أمري لله حين أسفرت الديموقراطية، مؤخراً، عن حماس.
الحقيقة أنني لا أحب الإسلاميين أبداً، ولا أحب نانسي عجرم، ولا أغتاظ بالقدر الكافي من العجرفة الدموية لدولة عنصرية مصابة بالبارانويا تساندها، بلا منطق أو ضمير، أقوى حكومة في العالم.
فقط ــ والدموع تداعب جفني من أن أصدقائي “البيارتة” يشكرون لي سؤالي عنهم ــ تراودني الرغبة في تفجير نفسي، لكن من دون حماس.
(شاعر وكاتب ــ القاهرة)

إليكَ معونة الضوء
عدنية شبلي

عزيزي...
أكتب إليك الآن بمعونة الضوء المتسلل من بين أوراق شجرة الكينا الواقفة خلف شباك المطبخ. التيار الكهربائي هنا مقطوع ولا نفسَ في قارورة الغاز. وحين فتحت باب البرّاد، هاجمني ضوؤه بشراسة، ليفهمني أن لا شيء في الداخل ليحجبه. باختصار، الوضع كارثي. لكن لا تقلق، سأصمد.
لقد سقطت للتو من السماء على القدس. الرحلة من لندن لم تكن ممتعة. لا أدري لماذا لم تعد شركات الطيران تمنحني مقعداً محاذياً للنافذة. يقولون لي إنه لا توجد مقاعد شاغرة، مع أنني ألاحظ الكثير منها لدى دخولي الطائرة. كانت هنالك سيدة تجلس على المقعد المحاذي للنافذة. جاء رجل يحمل قيثارة، جلس على المقعد بيننا. كانت الساعة تعدّت منتصف الليل. اكتشفت أنني أكره الرجال الذين يحملون القيثارات. القيثارات تثير غثياني.
عندما جلس، التفت إلى السيدة الجالسة بمحاذاة النافذة ثم سألها من أين هي. أجابت “من إسرائيل”. عقّب بانفعال أنه أميركي وزوجته إسرائيلية. ثم صمت. استدار نحوي وسألني من أين أنا. قلت: “من فلسطين”. صمت. ثم عاد يقول: “أووه هذه الحروب. الحروب. هل زر.. زرت.. هل زرت إسرائيل؟” أطلق مباشرة سؤالاً ثانياً: “لكن كيف ستدخلين إلى لبنان؟” ثم ثالثاً: “هل أنت عارضة أزياء؟ ابنتي تريد أن تصبح عارضة أزياء ولا تعرف كيف تدخل هذا المجال؟” كان ثملاً حتى البلاهة، لا يعرف أن إسرائيل هي فلسطين وأن فلسطين ليست لبنان، إلا أنه لا يرى أيضاً أنني عجوز شمطاء.
وصلنا. كان أغلب المسافرين في سيارة الأجرة المتجهة إلى القدس، إسرائيليين... حتى الراديو المشتعل. كانوا جميعهم يتحدثون بحماسة وبهجة من دون توقف. لن أقول لك عما سمعته في ذلك الصباح. فأنا أحب الصمت كثيراً. والآن عليّ أن أعترف لك بشيء. قبل أيام بعثت برسالة إليك ولبعض الأصدقاء في بيروت لأطمئن عليكم. لكنني لم أكن قلقة على أي منكم في صميمي. إن كان لديّ قلق حقيقي، فهو على أولئك الذين هم عرضة للموت، وربما الآن هم في عداد الأموات. لا ليس قلقاً ما أشعر به نحوهم، لكنّه الخجل فالصمت. الصمت. أحسّه فجأة بعيداً من أن يكون مجرد فعل. إنه أشد سطوة من أن يكون كذلك.
في طريقي من المطار إلى القدس، ولأنني لا أريد أن أفقد إيماني بالإنسان، رحت أبحث عبر النافذة عن موضع ألجأ إليه بعيداً من الأحاديث الجارية في سيارة الأجرة. كانت بيوت استيطانية حديثة بُنيت على عجلة، أسلاك شائكة، وجدران، معسكرات جيش، حواجز، وطرق سريعة للمستوطنين. خلفها، رأيت جبالاً تتلوّى فوقها سلاسل حجرية فضحت بتلقائية لعوبة مفاتن هذه الجبال.
أتمنى بدوري، بأن ما يجري من حولك لا يستطيع حجب مؤاساتي ومؤاساة هذه الجبال لك ولمن حولك .
(كاتبة ــ القدس)

بيروت ــ بغداد
كامل شياع

بعد بيروت بغداد، ثم بيروت مرة أخرى. المخطط يبدو واحداً: تدمير عاصمتين بحثاً عن الجواب الفصل في الفرق بين الإرهاب والمقاومة، العدوان والدفاع عن النفس، والحرب العادلة والحرب الظالمة. وهذا البحث يبقى هو هو وإن اختلفت الخريطة وتغيّر الزمن.
إسرائيل والولايات المتحدة في الحقيقة شريكان في تطبيع مسار تاريخنا “الأعوج”، وفي الاجتهاد بالتشريع للأقوى. في عام 1982 غزا جيش إسرائيل لبنان وحاصر بيروت التي تخشاها الصهيونية. في عام 2003، اجتاح المارينز بغداد وأوقفوا دباباتهم على جسر الجمهورية فوق نهر دجلة. فرّ الديكتاتور وترك الغزاة يختمون عاصمة الخلافة العباسية بختم صقور الليبرالية الجديدة. وصدّق الشعب المقموع رسالة كاذبة عن الديموقراطية المصدّرة من وراء المحيطات.
في بيروت، منذ أسابيع تصنع همجية الدولة العبرية مشهداً سريالياً موجعاً، فيه من عقد الأساطير بقدر ما فيه من الصلافة والاستعلاء. والعالم يتفرج على حرب ليست سوى مجاز. المدينة التي احترقت أسابيع أمام أنظارنا، لم تكد تودع تناحر الطوائف والهويات القاتلة، ولم ترمم بعد ندوب حروبها العبثية الصغيرة والطويلة.
بيروت لم تخرج بعد إلا لمسافة خطوات من متاهة التقاطعات الحادة لتاريخها القريب، وأزمات جيرانها.
في بغداد، فتحت القنابل الذكية مغارات علي بابا، وأوقدت ليل بغداد بأنوار العصر الأميركي الجديد. المارينز يدهمونك في الشوارع، والحواجز الاسمنتية والأسلاك الشائكة قطّعت أوصال عاصمة الرشيد. أما المروحيات المغيرة فتمزق هدوء المساءات.. وتطلق الحمامات مذعورة من بين أغصان أشجار البرتقال. هل لنا أن نبتهج بخرابنا القبيح؟ قضاة التاريخ المزيفون سيمضون كسحابة صيف، والقوة السافرة ستدحض نفسها بنفسها. ولبيروت وبغداد قوة الحق والحياة. سلام عليكم يا أيها الضحايا والمفجوعون.
(كاتب وباحث ــ بغداد)

من عكّا مع حبّي
علاء حليحل

أنا أكره الصافرة. أكره صوتها البشع وأكره “نغاشتها” في تقليد مغنية تتفنّن بصوتها العالي، فتارةً تعلو به وتارةً تهبط به، ونحن بيْنَ بيْنَ، نرفضُ تصديق جدية الموقف، فنُنكر على الصافرة جدواها ونقول: هذه ليست لنا، فنحن لسنا جزءاً من العدوِّ. لسبب ما يؤمن العرب هنا بأنهم خارج حيز الإصابة وبأنّ قوة ما، شيئاًً، يحمي رؤوسنا من حمم الحرب، لأننا عرب ولأننا لسنا جزءاً من دويّ المعارك وغبارها الإلكتروني المتطور.
ليلة الثلاثاء. لعبة “شدة” حامية الوطيس بيني وبين حماي وخال المدام. نقتل الوقت بلعبة “شدّة” على سفح شرفتي العكاوية المسالمة. صافرة إنذار. كاتيوشا في طريقها إلينا. ينظر بعضنا إلى بعض بتساؤلات، ثم نحسم بأنّ الصافرة ليست من شأننا. تسقط القنابل. دويّها مسموع ومهزوز قليلاً. نتكهّن: في نهاريا، في شلومي، في الكريوت، في حيفا. سقطت في حيفا لا شك. فعكا ليست إلا محطة من ثوان مُحلّقة صوب حيفا، ونحن هنا لا يعنينا هذا. نعود إلى حربنا المستعرة: أحتاج إلى جوكر أو إلى “التماني الديناري” فأنتصر.
الجميع بحاجة إلى الجوكر لينتصر. أين الجوكر؟؟
بيروت تحترق وحيفا تحت القصف. الكثيرون قالوا إنّ حيفا وبيروت متشابهتان، بالتضاريس والجغرافيا وبالحياة الثقافية. السيناريو عبثيّ: المقاومة اللبنانية تقصف حيفا، قلب فلسطين التاريخي، وأسئلة تتطاير في الهواء: القتلى العرب في هذا القصف، هل هم شهداء أم لا؟ قلبنا مع لبنان، لكنه يرتعش من الصواريخ الآتية من لبنان. لا بدّ من شجعان يصرخون في وجه إسرائيل، ولا بدّ لنا من أن نصرخ حباً لهم، وخوفاً علينا. هي صرخة مختلطة، تتقلب حسب التطوّرات، وتتبدّل حسب التغيّرات. هكذا نحن العرب الفلسطينيين الباقين في وطننا، ننقسم في كل حرب بين العرب وإسرائيل، بين ذاتنا المحلية التابعة للحرب وبين ذاتنا العربية الشاملة، المتتبعة للحرب.في الشدائد والملمّات يتحوّل المكان إلى كنية لجميع الناس المرتبطين به. فبيروت الآن هي جميع الأصدقاء والمعارف فيها، وهي أيضاً أبناؤها وبناتها الذين لا أعرفهم. كلهم “بيروت”، وكلهم أصدقاء حتى إشعار آخر. ليس في وسعي أن أكتب لهم أبلغ مما كتب درويش في “ذاكرة للنسيان”:
“لتكُن بيروتُ ما شاءت، فهذا دمُنا العالي لها
شجرٌ لا ينحني. يا ليتني.. يا ليتني
أعرف الساعة من أين يطير القلب كي أرمي لها
طائر القلب لكي ينقذني من بدني.”
حبيبتي تخشى علينا من الكاتيوشا. تهرعُ إلى الغرفة الآمنة، ومعها أنا، نافية أي احتمال بأن نُصاب. تريد لقصّة حبنا أن تستمرَّ، فنستمرُّ. بالحب نواجه الحرب. في الحرب يصحّ أن نقول: بالحبّ وحده يحيا الإنسان. أردّد ما قاله أبيقور: “لماذا أخاف من الموت؟.. ما دمت موجوداً، فإنّ الموت لا وجود له. وعندما يكون الموت، فأنا لست موجوداً، فلماذا أخاف من ذلك الذي لا وجود له، عندما أكون موجوداً؟”.
(مسرحي وكاتب - عكا)
النيازك تموت بصمت
نوال اسكندراني

أكثر من شهر وبلدكم الجميل تحت القصف الاسرائيلي. لم تعد روما التي وصلت إليها تعني لي شيئاً. بعد الاحتفال الذي بلغ حدّ الهذيان بالمونديال وضربة رأس زيدان، استيقظنا على صفعة في وجهنا، عاجزين عن استيعاب ما يجري: في ليلة يتيمة، اندلعت النيران وساد الموت على الضفة الأخرى. ولا أعرف كم من الوقت يلزمكم لتضميد الجراح... المرة الأخيرة التي زرت فيها بيروت كانت في كانون الثاني الماضي لتقديم أحدث أعمالي “النيازك تموت بصمت” ضمن "مهرجان بيروت الدولي للرقص المعاصر" في مسرح مونو. كنت أمضي الدقائق العشرين الأولى من العرض مدفونةً تحت 300 كيلوغرام من الرمال. ولأخدع الانتظار وأحارب الرطوبة التي تتملك عظامي (فأنا تقريباً عارية)، كنت أستسلم للعبة فكرية أستخدم فيها ذاكرتي. أستعيد اليوم التمرين نفسه، أتذكّر أسماءكم لأخبركم بأنني أفكر فيكم، انني أحبكم وأرغب في رؤيتكم مجدداً، في أسرع وقت ممكن.
لقد أنجب الغربيّون وحشاً. سيفهمون ذلك يوماً ما. قبلاتي.
(راقصة وكوريغراف - تونس)