بيار أبي صعب
ليس غونتر غراس “تحريفياً”، ولا يسكنه الحنين إلى النازية. ولم يقلل الأديب الالماني البارز يوماً من أهميّة “المحرقة”، ولا من فظائع الهمجيّة الهتلريّة. بل إنّه، على العكس تماماً، ينتمي الى هذا الجيل الذي برز بعد الحرب العالميّة الثانية، وراح ينكأ جراح الوعي الجماعي الألماني، واضعاً شعبه على الدوام وجهاً لوجه مع تاريخ شائك لم يتم تجاوزه الى اليوم. وكتب صاحب ٍنوبل للآداب (1999) محاولاً تسليط الضوء على المسؤوليات الفردية في قيام نظام شمولي قادر على ارتكاب الجريمة العظمى، وفضح أشكال التواطؤ والتنازل الصغيرة التي مهدت الطريق إلى الهولوكوست.
لكن غونتر غراس كان يملك سراً صغيراً، أخفاه بعناية قرابة ستين عاماً! ولكل كاتب كبير على الأرجح مثل هذا السرّ الذي يخبئه في احدى غرفه السرية، فيقض مضجعه ويعذب ضميره، وربما يشحن طاقاته الابداعية... ذلك السر ازدادت وطأته مع السنوات حتى صار عبئاً على صاحبه، ولم يجد غراس سوى حلّ واحد هو التطهّر منه عبر الكتابة. نعم. ذلك الكاتب اليساري، المناهض للحرب والعنصرية، والمناضل الشرس من أجل حقوق المهاجرين في ألمانيا، ورفيق درب الحزب الاشتراكي الديموقراطي لسنوات طويلة، كان “نازياً” في... مراهقته! “نازي” كلمة كبيرة : لقد تطوّع في البحرية، فوجد نفسه في الخامسة عشرة جندياً في الوحدات الخاصة لجيش الفوهرر، ثلاثة أشهر فقط...
حقيقة أخفاها ستين عاماّ عن معاصريه، كأنما لتؤجّج وعيه الشقي، وتحرّضه على الكتابة والنضال. والذنب الذي قد يبدو لنا بسيطاً في هذا المقلب من العالم - لكثرة المساومات التي نجريها مع أنفسنا! - أمر خطير في المانيا. وها هم زملاء غراس ومواطنوه وقراؤه يطلبون تفسيراً لهذا الاعتراف المتأخّر الذي ضمّنه سيرته الذاتية. هل نعتبر صاحب «الطبل» شجاعاً في اقدامه على مواجهة ماضيه، والتخلص من «لطخة العار»؟ أم نحاكمه على جرم أمضى عمره في تجاوزه والتكفير عنه؟ لا تقل لي إن كل كتاب العالم ضمائرهم مرتاحة اليوم، من برلين... إلى تل أبيب، حيث يبكي الكاتب ديفيد غروسمان صاحب «الهواء الأصفر» ابنه الجندي في «تساهال» الذي فقده خلال العدوان على لبنان؟