حسين بن حمزة
إن الأحداث الكبرى تحتاج إلى شاعر وشاهد مثل مظفر النواب، بل إن نبرة هذا الشاعر أقرب ما يمكن إلى مزاج الناس العاديين الذين لا يشهرون متطلبات شعرية ونقدية وأسلوبية في وجه قصيدته. إنهم يتلقّونها بوصفها لسان حالهم ومرآة آلامهم وغضبهم.
الواقع أن نبرة الاعتراض الصارخة لدى النواب تكاد تنحصر في شعره المكتوب بالفصحى. ذلك أن قراءه، أو بالأحرى مستمعيه، يعرفون أن له تجربة ثرية على درجة من الخصوصية في كتابة الشعر العامي أو الشعبي باللهجة العراقية ذات الحساسية المرهفة والشجن العميق. ويمثّل النواب، في هذا السياق، واحدة من التجارب النادرة في الشعر العراقي والعربي بجمعه بين الفصحى والعامية. إن سبب الصيت الواسع لقصيدته الشهيرة “وتريات ليلية”، أنها تختصر “فن” مظفر النواب في شتم الحكّام العرب والأنظمة المتخاذلة، وهل منا من لا يحفظ المقطع الأكثر شهرة في تلك القصيدة: “القدس عروس عروبتكم...».
غالباً ما يحضر اسم مظفر النواب في ذهن الجمهور مصحوباً بهذا المقطع أو مقاطع أخرى من القصيدة نفسها، رغم كتابته لنصوص وقصائد أخرى ومنها خمريات وذاتيات مختلفة. ويراه بعضهم شتاماً موهوباً بالفصحى، وشاعراً في العامية العراقيّة.
إذا كان النواب شاعر الغضب الجماهيري فإنه، أيضاً، شاعر الشجن العراقي بامتياز. إنه شاعر الوتريات لكنه شاعر “الريل وحمد” أيضاً. هذه القصيدة تصلح لأن يُنظر إليها على أنها القفا العامي لشهرته الفصيحة. والواقع أن ذيوع الوتريات على أشرطة الكاسيت، وانتشار “الريل وحمد” في طبعة نادرة، يوضحان أن شعر النواب السياسي المباشر يحتاج إلى طاقة إلقائية خاصة كتلك التي يختلط فيها الحزن بالغضب والاحتجاج والشتائم. بينما يكشف في شعره الشعبي، عموماً، عن مهارات وممارسات شعرية أكثر تنوعاً، ونبرة أكثر خفوتاً وطواعية وشجناً، يستثمر فيها الشاعر ذاكرته وبيئته العراقية وخصوصيتها الجغرافية والاجتماعية والوجدانية. وهي نبرة أكثر شعرية بالمعنى النقدي للكلمة.
كتب مظفر قصيدة "الريل وحمد” قبل نصف قرن. والريل يعني القطار في لهجة جنوب العراق. في ظروف خاصة، وكان يضع الورقة والقلم تحت وسادته وينهض ليلاً ليدوّن بعض المقاطع في العتمة، ويقول إن صديقه الكاتب علي الشوك هو من أخذها من دفتره ونشرها من دون علمه. وقال سعدي يوسف إنه يضع جبين شعره على “الريل وحمد”.
يقول مظفر إنه في الفصحى ينحت في الصخر، وفي العامية يشتغل على الطين. ويرى أن العامية مطواعة وتحتمل حرية أوسع في الاشتقاق. وهذا قد يفسر جانباً من تحقق شعريته بشكل أفضل في أعماله العامية، وخصوصيته المباشرة في قصائده الفصيحة. وإذا كان الكتّاب والفنانون يفكرون في أن تحفظهم نصوصهم أو بعضها أو واحد منها من النسيان، فإن مظفر النواب ينعم بفرصتين كي يتذكره الجمهور. فأعماله السياسية تعيش في ذاكرة الناس لأنها تتحدث باسمهم وتنتقم لهم، بينما سيتذكر جمهور آخر أقل عدداً وأكثر تطلباً شعره العامي.











يخنكني الدمع

ياما سفحتلك بالليالي دموع
جانت ترفة
وياما الدمع ضوه سواد العين
وعينك صلفة
وتدري تنيت الدفو
بلهفة وردة
وماجيت
ونيمني الثلج
والشتا كله اتعده
لابالمحطه رف ضوه
لاخط اجانه من البعد
لاريل مر على السده …

والزلف هجرك فضضه
ورد فضضه
ومامش رجه
ولساع
من همسة تجي من بعيد
يخضر الضلع
كل نسمة ترفه
من تفك الباب
يخنكني الدمع

***


مرّينه بيكم حمد، واحنا ابقطار الليل
وسمعنه دك اكهوة... وشمينه ريحة هيل
يا ريل... صيح ابقهر
صيحة عشك يا ريل
هودر هواهم، ولك
حدر السنابل كطه

(مقتطفات من شعر مظفر النوّاب، بالعامية العراقيّة).