رلى راشد
في صيف عام1969، صعد الأميركي جيمي هندريكس الى الخشبة في مهرجان وودستوك للموسيقى والفنون في نيويورك. استلّ غيتاره وأجهز على النشيد الوطني الأميركي. فكّكه ومزّقه إرباً إربا... وببضع نقرات على أوتار آلته، طعّمه بـ“صوت” انهمار القذائف الحارقة على أطفال معاقل “الفيتكونغ”. هندريكس الرافض لشتى أنواع الالتزام السياسي المباشر، أراد تخريب النظام القائم وإيجاد أساليب تعبيرية بديلة، في وقت عجز فيه العالم عن وقف التدخّل العسكري في فيتنام والتمييز العنصري والمحرّمات الاجتماعيةومن غابات الأرجنتين، صدح صوت مرسيدس سوسا لتضمد جراح شعبها وثوراته المجهضة. غنّت سوسا «إذا صمت المغني صمتت الحياة... الحياة برمتها أغنية»، وعبّرت عن امتنانها «للحظ السيء واليد التي حملت الخنجر وأخفقت في قتلها»، لتستمر في الغناء. حملت صوت الغالبية الصامتة في بلاد البامبا، واستدانت الاستعارات لتساهم مع فيوليتا بارا، في بلورة الأغنية اللاتينية الجديدة في ستينيّات القرن الماضي وسبعينيّاته.
وبينما قبض خورخي رافاييل فيديلا على مقاليد الحكم في التانغو ناثراً الترويع والترهيب، أقضّ صوت سوسا مضجع نزلاء القصور، فاقتحمت الشرطة حفلاً موسيقياً كانت تحييه في لابلاتا عام 1975، واعتقلتها مع 350 من الحاضرين وقادتها إلى طريق المنفى. وتردّد صدى هذه التجربة الرائدة على امتداد القارة اللاتينية مع جوديث راييس في المكسيك ودانييال فيجلييتي في الأورغواي وغلوريا مارتين في فنزويلا.
في البرازيل، فتح جيلبرتو جيل موسيقاه على تعدّد الانتماءات مازجاً البوسا نوفا والسامبا والريغي والروك، وهدّد سطوة العسكر لدى إطلاقه “تروبيكاليا” (التجمع المناهض للـ“استبلاشمنت”) فعرف السجن مع رفيقه الموسيقي كايتانو فيلوسو في 1968.
بعد إطلاق سراحه، غادر جيل الى لندن مدينة الضباب حيث انفتحت موسيقاه على تجارب غنائية هجينة. وعلى رغم تأكيده ــ مثل معظم الفنانين والموسيقيين ــ على انفصاله عن الحياة السياسية، رأى بعضهم في تعيينه وزيراً للثقافة عند وصول الرئيس لولا الى الرئاسة في البرازيل، انتقاماً من مجموعة الاعتراض البرازيلية المشروع.
لا يمكن فصل التزام المغنين عن السياق السياسي، فانهيار الاتحاد السوفياتي طرح أمامهم معضلة نتيجة تبدّل الخريطة الجيو ــ سياسية.
ومع وصول اليسار الى الحكم في فرنسا مثلاً، انتفت الحاجة تقريباً الى كره السلطة. شيئاً فشيئاً تخلّى الفــــنانون الملتزمون عن همّهم السياسي متوجهين الى الهمّ الإنساني.
لكن بروز تيار العولمة في السنوات الأخيرة نفح الحياة في أغنية مناضلة مستحدثة، أرستها تجربة فتية قوامها أبناء المهاجرين وخصوصاً من بينهم الإسباني ــ الفرنسي مانو تشاو الذي شارك في مسيرات مناهضة للعولمة في مختلف مدن العالم وعارض سياسة الرئيس بوش.