نور خالد
إن قمع المثليّات ليس حكراً على العالم العربي. قبله كانت اوروبا أشدّ ضراوةً، لا ضدّ المثليات فحسب، بل ضد أي نوع أدبي يتناولهن. قصائد فيرلين في “صديقات”، تعرّضت للمنع فيما “أزهار الشر” فتحت لشارل بودلير باب السجن على مصراعيه. والواقع أنّ "الأدب المثلي” لم يشهد ازدهاراً الا في الخمسينيات من القرن المنصرم، وعرف انعطافة نوعية بعد أيار 1968 مع بروز الحركة النسويةالأميركية أدريين ريتش، رأت أن المثلية أمر مفروض على المرأة بالقوة وفي لاوعيها أيضاً. وغدت ريتش أشهر شاعرة مثلية في الولايات المتحدة، تغنّت بحبيبتها ونظمت فيها شعراً. ومن قصائدها: “يدك الصغيرة تعادل يدي تماماً/ الإبهام فقط أكبر بعض الشيء وأطول/ في هاتين اليدين/ أستطيع أن أثق بالعالم/ وبمثل هاتين اليدين/ يمكن أن أقاوم ما لا يُتّقى من العنف”. وفي عام 1976، كانت ريتش قد أعلنت مثليتها على الملأ وتناولت في كتابها “دّم، خبز وشعر” (1986) القضايا المتعلقة بالمرأة السحاقية والهوية الإثنية والتمييز العنصري، إضافة إلى قضايا الشعر. ويحتفظ التاريخ الأدبي بسجلّ طويل لشاعرات قاربن المحظور المثلي، منهن شاعرة العصر الفكتوري الانكليزية شارلوت ميو، واليهودية غرترود شتين التي ألهمت ماتيس وبيكاسو، والشاعرتين الأميركيتين أودري لورد (1934 ــ 1992) وإليزابيث بيشوب (1911 ــ 1979).
اكتسبت المثلية النسائية معاني مختلفة في الثقافة. فرويد رآها حلماً داخل الجنس، بل هي الحلم الذي يؤسس للنصّ. وفي الفكر الفلسفي، تعكس الخنوثة (أو “الشواذ”) فكرة الوجود. لكن أي وجود كانت تعيشه الكاتبات المثليات؟
المعروف أنّ سافو كانت من أكثر الشاعرات قلقاً في الحضارة اليونانية، وُلدت في جزيرة ليسبوس (بين 610 و580 قبل الميلاد) ونالت شهرة واسعة لما اكتنف حياتها من جرأة وغموض، وما اتسم به شعرها من عذوبة وقوة في العاطفة. حتى قيل إنه لم يضاهها احد من معاصريها. وكتب عنها الشاعر اوفيد قائلاً: "ماذا علّمت سافو فتياتها، سوى مزج الحب بالنبيذ؟”.
أما الشاعرة الأميركية اميلي ديكينسون (1830 ــ 1886) التي كتبت شعراً في حبيبتها، فعاشت حياتها وحيدة في منزلها. تلقّت تعليماً متوسطاً عوّضه نهمها الكبير للمطالعة. وعلى الرغم من عزلتها، ارتبطت بقصص حب لم تسفر عن شيء مع المحامي بنجامين نيوتن وظلت تشير اليه كـ"صديق علمني الخلود”. احبّت بعدها رجلاً يدعى واسروث، لكنه انتقل لاحقاً الى بلدة بعيدة عنها وانقطعت علاقتهما. بعد عام 1862، أصبحت الشاعرة تدريجاً اشبه بناسكة.
وفي العقد الأخير من حياتها، لم تغادر بيتها قطّ، بل رفضت رؤية أحد وجعلت بيتها وحديقتها حدوداً لتجربتها، وكانت تكتفي ببعث الرسائل الى اصدقائها. نشرت سبع قصائد لا تحمل اسمها، لكن بعد وفاتها، اكتشفت شقيقتها لافنيا ما يقارب 18 الف قصيدة لها.
حياة ديكنسون لا تضاهي في تعاستها حياة الروائية البريطانية فرجينا وولف (1882 ــ 1941) التي تحدثت بصراحة عن مثليتها وعلاقتها بالأديبة فينا سكافيل ويست. لم تذهب وولف كسائر اشقائها الى المدرسة بسبب سقم بنيتها. مكثت في المنزل وحيدة تنهل من مكتبة والدها. كانت تعاني حالات اكتئاب واضطراب عقلي، وتعرّضت لتحرّش اخيها غير الشقيق جورج. أصيبت اكثر من مرة بانهيار عصبي، وحاولت الانتحار مراراً إلى أن أنهت حياتها غرقاً. اما التشكيلية فريدا كاهلو (1907ــ 1954) فلها تجربة مميزة، إذ حملت صليب الانوثة الملتبسة، بين الاستكانة لشروطها والتمرد عليها. كانت في الحالين تستخدم الجمال والفن وسيلتين في أي معركة تدخلها. كان لديها القدرة على تحويل الفن إلى ظاهرة شخصية شديدة الخصوبة.
ويقال إنّها كانت تحرص على ابقاء شاربيها الخفيفين وحاجبيها المعقودين في إشارة الى تمايزها. عندما شدت الرحال مع زوجها ديغو ريفييرا اثناء قيامه بمشروعه الجداري، لم تلق الترحيب من الاميركيين الذين رأوا شكلها شاذاً وغريباً. ولديها صور فوتوغرافية في صباها تظهرها مرتدية بزات رجالية. وعزا النقاد ذلك الى مثليّتها.