strong>حين يشارك جان شمعون ومي المصري في مهرجان دولي... ليس أمام إسرائيل الا الانسحاب، كما حصل بالأمس في فرنسا! خلال العدوان الأخير باشر الثنائي الذي يرفع لواء السينما التسجيلية بتصوير فيلمه الجديد، وسيمضي الى الاسكندرية للدفاع عن سينما المقاومة.
رنا حايك

جان شمعون ومي المصري ثنائي على حدة في المشهد السينمائي اللبناني والعربي. ليس فقط لأنّهما يعملان معاً على إخراج معظم أفلامهما، بل وخصوصاً لأنهما اختارا “السينما المقاتلة”، السينما الميدانية التي تنزل الى المعترك، تعيش بين الناس وتتركهم ينسجون الحكاية ويصبحون أبطال الفيلم. ولهذا ربّما تحتل تجربتهما التسجيلية موقع الصدارة على حساب السينما الروائية. يحمل جان ومي الكاميرا كما يحمل غيرهما رشاشاً، ويمشيان في التظاهرات أو يمضيان الى مواقع القتال المتقدمة. وخلال أيام العدوان الاسرائيلي الأخير، التقيناهما في المواقع الحساسة، جالا على أحياء الضاحية وقرى الجنوب بحثاً عن زهور “القندول” المقاومة، خديجة حرز والأخريات.
مشاركتهما بالأمس في «مهرجان الفيلم التسجيلي» في ليساس (جنوب شرق فرنسا) بشريط «يوميات بيروت ــ الحقيقة والسراب» (عن شباب بيروت في ساحة الشهداء بعد مقتل الحريري) الى جانب مخرجين عرب آخرين بينهم ماهر أبي سمرا وداليا فتح الله، أدت الى مقاطعة اسرائيل للمهرجان. هو لبناني وهي فلسطينية، جمعت بينهما الجراح، ووحّدتهما السينما. وثّق الثنائي جان ومي مآسي الحروب إيماناً منهما بسلطة الصورة وخطورتها في تصويب التاريخ أو في تحريفه. وتعاملا مع السينما وسيلةً لتناول الواقع من خلال رموز تعبّر عن حالة اجتماعية وسياسية وثقافية. مواضيع أفلامهما مستقاة دائماً من أتون الواقع السياسي والاجتماعي. من “تل الزعتر” (1978) إلى “بيروت جيل الحرب” (1988)، ومروراً بـ«تحت الأنقاض» (1983)، بقيت المأساة وإن تغيّرت فصولها على الشاشة.
أبطال شمعون والمصري هم ناس كل يوم وكل نكبة، يحملون تجربتهم أمام الكاميرا، وكل فيلم من أفلامهما يتميز بقدر كبير من التلقائية. يمّحي المخرجان وراء الأحداث والحكايات. «تل الزعتر» صنعه الناجون من المجزرة بقصصهم عن الهرب من الموت والتمسّك بالحياة. الحصار منع المخرجين من الدخول إلى المخيم، فاستعانا بصور من وكالات الأنباء وبشهادات الذين تمكّنوا من الفرار من جحيم المخيم.
مع أن اسم جان شمعون اقترن بالسينما التسجيلية، فإن أول سيناريو كتبه بعد التخرّج من “مدرسة لوي لوميير” الباريسية، كان لفيلم روائي طويل عن أدهم خنجر... إلا أن الحرب الأهلية حالت دون إتمامه آنذاك، واستدرجت المخرج الشاب الى أحضان السينما التسجيلية. في عام 2000، أعاد التجربة فكان «طيف المدينة» فيلمه الروائي الأول الذي حقّقه بصعوبة نظراً إلى حجم فريق العمل وصعوبة إدارة الممثلين. وبقيت بصمات السينما التسجيلية واضحة بقوة على تلك التجربة. يؤكد السينمائي اللبناني أن “السينما الوثائقية خيار”، لجهة اللغة والتوجّه والعلاقة بالحدث وبالجمهور... ويقول: “الفيلم الوثائقي ليس نخبويا، وانتاجه أسهل خصوصاً بعد رواج كاميرا الديجيتال، وأسلوبه أكثر تلقائياً”. والفيلم التسجيلي، يذكر شمعون، جزء أساسي من تاريخ السينما. الغرب يفسح له المكان على عكس العالم العربي الذي يتعامل معها بنظرة دونية.
بعد كل تلك السنوات التي أمضاها جان ومي على “جبهة الوثائقي”، يبتعد الثنائي اليوم من الصورة الدموية ليبحث عن أشكال أخرى وتقنيات وجماليات للإيحاء بالمجزرة. إحساسهما بتكرار المآسي جعلهما يحملان الكاميرا كعادتهما في كل حرب ويجولان طوال الأسابيع الماضية على مناطق الجنوب والضاحية التي دُمّرت والناس الذين هُجّروا منها. جالا وفي جعبتهما فكرة وثائقي رحّبت به قناة “الجزيرة” حول استعادة شخصيات أفلامهما السابقة في إطار المأساة المتكرّرة. الدكتورة نور الدين التي ظهرت في «رهينة الانتظار» (1994) بصفتها الطبيبة العائدة لتوّها من فرنسا، لتستقر في الجنوب مع الصامدين على بعد أمتار من المحتل، ما زالت حتى اليوم “تنتظر” المجزرة المقبلة. وستظهر مجدّداً بعد 12 سنة وهي تضمّد جراح المصابين خلال العدوان الأخير. هكذا هو الثنائي شمعون ــ المصري صاحب “زهرة القندول” (1986)، لا يتعب من المواجهة، كأن السينما بالنسبة إليه فن قتالي. وبعد أيام سيمضيان الى الإسكندرية للمشاركة في مائدة مستديرة حول “سينما المقاومة”... حتى ليخيّل للمرء أن المحور وضع من أجلهما شخصياً! (راجع المقالة أسفل الصفحة).
وتعرض الاسكندرية “يوميات بيروت” الذي يعرض في الإسكندرية بعد ليساس الفرنسية حاز أخيراً جائزة بينالي السينما العربية في باريس. تذكر مي المصري جيداً تلك الحادثة خلال حصار 1982. يومها أراد الثنائي التصوير من إحدى بنايات تلة الخياط إلى الطابق 14. كانت الإشاعات تملأ بيروت حينذاك حول قوة ذلك العدو الذي يستطيع تصوير أدق التفاصيل على أرض لبنان. حين حاول ناطور البناية أن يمد أطراف الحديث خلال التصوير، أشارت اليه مي أن يخفض صوته خشية أن يلتقطه الميكروفونز عندها التفت الرجل إلى جان وقال له: «شو إستاذ، بيسمعونا؟».
السينما بالنسبة إلى جان ومي هي لحظة الصدق والعفوية تلك... يريدانها مرآة للواقع. ويستعيد جان شمعون، بشيء من الحنين، شعار مؤسسة السينما الفلسطينية التي عمل معها في السبعينيات: نصف كلاشينكوف ونصف كاميرا.