بيار أبي صعب
نادراً ما حقّقت نصوص كاتب عالمي تفاعلاً مع الواقع العربي، مثل مسرحيات لوركا وأشعاره. كم قصيدة أحببناها ورددناها طويلاً ترجّع أصداء صوته، وتحيل إلى كتاباته وحياته. أما أعماله المسرحية، فحاضرة بيننا بقوّة، إذ تعاقبت وتتعاقب عليها أجيال من المخرجين و... الممثلات. فأغلب الأدوار الكبرى التي كتبها هذا الشاعر اليساري والمثلي جنسياً، هي أدوار نسائية. ليس هناك خشبة عربية (من بيروت الى الرباط، ومن بغداد إلى تونس، من دمشق الى المنامة، من دون أن ننسى القاهرة)، لم تمثل فوقها ـــ ولو مرّة ـــ مسرحية للغرناطي القتيل. من “يرما” إلى “برناردا ألبا” وبناتها، مروراً بـ“دونا روزيتا” وغيرها من النساء العالقات في فخ دموي، بين لوعة الداخل وقسوة الخارج. تدور أحداث مسرحياته في فضاءات ومجتمعات مغلقة، محافظة، ذكوريّة وبطريركيّّة، تختزلها مسرحية ”عرس الدم” خير اختزال... مجتمعات رازحة تحت نير التقاليد والقواعد الصارمة، وقابعة ـــ في الآن نفسه ـــ على بركان من الانفعالات والمشاعر والرغبات الدفينة.
فدريكو غارسيا لوركا كاتب عربي بامتياز. والواقع الذي استوحى منه كل تلك القسوة واللوعة يكاد يتماهى مع واقعنا بشكل مدهش. والشاعر الذي واجه الديكتاتورية، ومات برصاص الفاشيست، يبدو شهيدنا في كثير من الأحيان: ذلك أن فرانكو العربي ما زال قابعاً على أبواب الوطن ـــ الزنزانة، يراقب كلماتنا ويتحكم بمخيلاتنا ويمنع عنّا المستقبل.
لكنّ نصوص لوركا ــــ ذلك “الذكاء المضطهد” بتعبير أحد النقاد ـــ ترجّع اليوم صدى تناقضات الشاعر، وتمزّقاته، وعذاباته، وصراعاته الداخلية الدفينة. بين ميراث الأجداد ومتطلبات عالم جديد، بين تمسكه بجذوره الأندلسية وانبهاره بناطحات السحاب في نيويورك... بين إيقاعات الـ“كانتي خوندو” التي تجري في عروقه مع الدماء الغجريّة، وتحديات السريالية التي أطاحت بكل نموذج وكل مرجع وكل سلطة... بين انحيازه إلى الثقافة الشعبية ومشاغله الطليعية. بين عبء التقاليد التي أراد التأقلم معها وتطلعاته التقدمية وميوله الجنسية المغايرة...
إن كتابات لوركا تحمل جراح الانتماء، وأسئلة الهويّة الحارقة، في جمعها بين رقّة الشاعر وعنف مصارع الثيران، بين ميراث الريف والحياة البوهيمية في مدريد وباريس ونيويورك ثلاثينيّات القرن الماضي. كأنها ترمي إلينا اليوم بأسئلتنا المؤجلة: ما معنى أن تكون عربياً (و “تقدمياً”!)على أعتاب عصر جديد يعيد النظر بالمسلمات والمراجع؟