أكثر من شاعر، وأكثر من شهيد... الشاعر الإسباني فدريكو غارسيا لوركا الذي يحيي العالم ذكرى رحيله السبعين، حالة فريدة في ذاكرة القرن العشرين. إنّه العندليب الأندلسي الذي جمع الفلامنكو والسوريالية، الشعر والرسم والأدب، الرومنسية الغنائية والطوباوية السياسية التي كلفته حياته.
رلى راشد

“درب أعرفها/ أعود الى ذاك المكان/ اتركوني أرجع إلى بدايتي! / لا أرغب في الضياع في البحر،/ أذهبُ في تجاه النسيم النقي، نسيم عمري الأول/ حيث تضع لي أمي وردة في عروة سترتي”. هذا المقطع من قصيدة أهداها لوركا الى صديقه السينمائي لويس بونويل، في شهر آب 1921. ولعلّ العودة التي تشير إليها القصيدة، محور أساسي في مسيرة العندليب الغرناطي الذي أحيا العالم قبل أيام الذكرى السبعين لسقوطه برصاص “كتائب” فرانكو... كل عالم لوركا الإبداعي قائم على تلك العودة الدائمة إلى أرض الجذور، هو الذي غرف من تراث أجداده وتقاليدهم مادة مشروعه التقدمي والطليعي. العودة إلى بيئة طفولته، إلى المنزل الأول حيث يحوم طيف الأم، معها قام بخطواته الأولى على دروب الشعر والموسيقى. وفي ذلك الصيف من عام 1936، على وقع طبول الحرب الأهليّة، عاد لوركا الى مسقط رأسه فوينتي فاكيروس في غرناطة كمن يختار أن يواجه مصيره، مُتماهياً مع أدبه مسكون بهاجس الموتو”غرناطة” لوركا لا تشبه سواها. في كل ركن منها يختبىء شيء من ذائقة الشاعر، نتحسّسها في هواء جبال “السييرا”، وفي ملامح العجائز المتّشحات بالسواد. في بلدته أحيا الفلامكنو بأشكاله البدائية التي تحمل الجذور الغجرية القديمة... بعد ذلك بسنوات فرض نفسه كاتباً مجدداً بلغ ذروة مشروعه الطليعي مع ثلاثيته المسرحية: “عرس الدم” و “يرما” و “بيت برناردا ألبا” (التراجيديا الريفية). لكن ذلك لم يمحُ ارتباطه الوثيق والقدري بشجن الفلامنكو... وتحديداً بنوع خاص منه يعرف بالـ“كانتي خوندو” (أو الغناء العميق).
ولعل إحدى أجمل مفارقات أدب لوركا تحديداً جمعه بين الأشكال التقليدية ـــ بل “البدائية” ـــ وتطلعات الحداثة ومقتضياتها. “عرس الدم” (1932) إحدى أشهر مسرحياته، تنطلق من جريمة شرف حقيقية وقعت في تلك البيئة التقليدية الجائرة. وفي “بيت برناردا ألبا” يأخذنا الشاعر إلى عزلة بيت أندلسي ليس فيه إلاّ نساء يرزحن تحت عبء التقاليد التي تدافع عنها أم متسلطة. إن عالم لوركا الشعري مصبوغ دماً، مشبع بثنائيّة الحب والموت، لكنه دم يتخطّى غالباً ماديته ليرقى الى مستوى الاستعارة... أدب لوركا في معظمه، ليس إلاّ انعكاساً لتلك التمزّقات الحميمية التي تعتمل في أعماق الشاعر، في علاقته بذاته وبالمجتمع وبالإنسانية المعذبة.
وفدريكو غارسيا لوركا، أحد أفراد “جيل 1927” الريادي، تبدو علاقته بالسوريالية عابرة. سوريالية لوركا غارقة في الحلم، كما في قصيدته “أغنية الفارس” التي غناها باكو ايبانييس. وفي مجموعته “شاعر في نيويورك” وصلت الرؤيا الاحتجاجية الى أعلى مراتب اللامنطق. سحرت نيويورك صاحب “ماريانا بينيدا” في صيف 1929، فوجد نفسه موزعاً بين الافتتان بمجتمع منفتح، وهول تلك الحضارة المادية التي لم يكن لوركا مستعداً لمواجهتها. نيويورك لوركا مكان يُفقد الإنسان التبصّر الروحي.
ولعلّ المثليّة الجنسية من الأعباء التي عانى منها الشاعر الأندلسي طويلاً، هو الآتي من بيئة كاثوليكية محافظة... الى أن تحرر منها بعد عودته من جولته الأميركية عام 1930. وجاهر بهويته الجنسية في قصيدة «نشيد الى والت وايتمان” (“شاعر في نيويورك”)، متصالحاً ـــ الى حدّ ما ـــ مع نفسه ومع العالم.
ثلاثي مدريد
في “بيت الطلبة” في مدريد، جمعت الصداقة والمشاغل الجمالية بين فدريكو غارسيا لوركا وسلفادور دالي ولويس بونويل. تقاطعت تجارب الثلاثي شعراً ومسرحاً ورسماً وتصويراً، وتشاركوا هواجس وومضات وصوراً ومناخات ولقطات القمر والحشرات والموت والجنس ونداء الحرية. و إذا بهم رموز الحقبة الذهبية للطليعة الفنية في إسبانيا. لكن لوركا سيبتعد عن دالي الذي شكك في شعرية صديقه بعد صدور مجموعته “رومنسيرو جيتانو” التي رأى فيها “بعداً تقليدياً وميلودرامياً مشبوهاً”! وجاء فيلم “كلب أندلسي” بعد أشهر (1928) ليرسّخ الخصومة، إذ اعتبر لوركا أن الفيلم يتعمّد الإساءة إليه شخصياً. ونقلت رسوم لوركا بدورها هواجسه الروحية والثقافية، وتعلّقه بطبيعة غرناطة وصور البحّارة والعذارى والثيران، إضافة الى رموز الفولكلور الأندلسي وزخارفه اللونية. كأنها ـــ على طريقتها ـــ تعبير غير واع عن الفجيعة نفسها، وعن هاجس الموت.
وعند وصول فرانكو إلى السلطة في إسبانيا، باتت نهاية لوركا مسألة وقت. فما كانت إسبانيا الفاشية، في رأي ايان غيبسون كاتب سيرة لوركا، “لتتساهل مع مثليّ ناجح وليبرالي”. وبقيت لعنة فرانكو تلاحق لوركا طويلاً، فبقي الشاعر مغضوباً عليه وممنوعاً حتى عام 1953، سنة الإفراج عن “الأعمال الكاملة” لفدريكو غارسيا لوركا في بلاده، وإن جاءت مبتورة. في منزل لوركا تعكس أغراضه الشخصية تناقضات هذا الأندلسي القتيل الذي غرّد خارج سربه: “كاثوليكي وشيوعي وفوضوي وتقليدي” كما وصف نفسه يوماً. وهو في المصاف النهائي شاعر ليس إلا. شاعر فقط، يجر على درب جلجلته صخرة سيزيف المصنوعة من تناقضات مجتمعه وعصره، ومجتمعات وعصور كثيرة أخرى. أما في بلاثا دي سانتا آنا حيث يقف تمثاله، فيتردد أن مناصراً لليسار يمرّ يومياً ليضع وشاحاً أحمر على عنق لوركا، قبل أن يأتي مناصر يميني وينزعه. إنه دليل صارخ على أن لوركا هو أحد جراح الحرب الإسبانية التي لم تلتئم بعد.