لقمان ديركي
لا أجيء إلى لبنان من أجل السياحة، فلم يصدف أن ذهبت إلى مكان غير بيروت. في نهاية الثمانينيات مع أزمة المياه والكهرباء كنا نتسكّع في الحمرا من “الويمبي” إلى “المودكا” و“الكافيه دو باري” ثم ننتهي إلى “شيه أندريه”، البار الصغير الذي لم يعد له وجود الآن.
وبعد ذلك بدت المدينة أزهى، والأصدقاء كبروا، وبدا في الأفق أن بيروت تستعد من جديد لتحتضن الثقافة العربية المحتضرة. بدأ الأصدقاء بتأسيس ثقافة جديدة، فأسّسوا للسهرات الأدبية في البارات، بدأ الأمر في “شيه أندريه” في الحمرا، بمبادرة من يوسف بزي ويحيى جابر وناظم السيد وغسان جواد وفيديل سبيتي، ثم انتشر إلى بارات أخرى مثل “ليلى” أسفل الجميزة، و“جدل بيزنطي” في كراكاس. ونجحت المبادرة فإذا بمن لم يلبِّ الدعوات الأولى مترفّعاً، يبادر الى تلبيتها بداعي الفضول، ثم يأخذ في الحضور من دون دعوة. أضفى شبيب الأمين مزاجه على بار “جدل”. وصار بالإمكان أن تلتقي بمحمد العبد الله هناك يستمع إلى شاعر جديد، أو حسن عبد الله يقرأ قصيدة بشكل مفاجئ، أو عصام العبد الله أيضاً جالساً بكامل أناقته... هناك كنا على موعد مساء كل يوم جمعة مع شعراء وقصائد غير متوقعة، من لبنان ومن سوريا، من السويد والمغرب، من أي مكان.
وأُغلق مقهى “المودكا”، لكن كان هناك “الستار باكس”، و“ريغوستو”. وتحوّل بول شاوول من “المودكا” إلى “ليناز”، ومضى نزيه خاطر إلى “الويمبي”، وبدا المودكا بشكله الجديد كمحلّ ملابس محلّ ترحيب من الشارع وروّاده.
كل شيء ممكن في بيروت.
رشيد الضعيف عاد إلى الحمرا، “شيه أندريه” أُغلق... علي ربما هو في “ريغوستو” الآن، إسكندر حبش لم يعد يقضي فترة الغذاء في “الصوفر”. عباس بيضون تجده في “جدل”. “السفير” أيضاً مقهى، هناك أحمد بزون وعناية جابر، شوقي بزيع يعود بعد معركة عنيفة مع الجميع! زاهي وهبي ما زال وفيّاً لـ“الكافيه دو باريه”، ناظم السيد وفيديل سبيتي وغسان جواد ليلاً في “دو براغ”. بيروت لي، أصدقائي لي، بسام حجار لا تراه في أي مكان، حسن داوود يأتي إلى “جدل” رغماً عن دخان السجائر. بيروت السلام... لي، بيروت المدينة غير الخارقة... لي.
بيروت.. لي. رياض الريس ما زال في جنينة الصنايع، وعماد العبد الله هناك، كذلك حسن إدلبي، لم يتغير شيء في بيروت، تغير كل شيء في بيروت.
عدت إلى بيروت، من دون معاناة مع المياه والكهرباء، عندما كنا فصيح كيسو وأنا نخرج ليلاً إلى بيت نزيه خاطر لتفاجئنا الكهرباء بالظلام على الدرج دائماً. بيروت عادت إلى الشعراء. الشعراء يعودون إلى بيروت. في كل زمان لي في بيروت أصدقاء، وعندما تُقصف بيروت، عندما يمحون بيروت، أحوّل كل الأمكنة الى بيروت... وأمضي إليها. الشعراء عادة يذهبون الى بيروت، حتى لو لم تكن هناك بيروت.