خليل صويلح
لقمان ديركي على عجلة من أمره، كأنه لا يريد أن يسبقه العمر، أو أن تقفل بوجهه بوابة التاريخ! ها هو الشاعر يصدر “أعماله الشعرية” في مجلد واحد عن “دار نينوى” (دمشق)، تتصدرها مقدمة بقلم الشاعر العراقي سعدي يوسف. وهي بحد ذاتها احتفاء بالتجربة وبصاحبها. قراءة “الأعمال الشعرية”، تتيح فرصة الإطلال على تجربة هذا الشاعر الساعي إلى كتابة قصيدة يومية تتخفّف عن قصد من أعباء الآخرين. يكتب ديركي كمن يذهب إلى مشاغله الشخصية ورهاناته الخاسرة، في مجابهة حياة لا تريد أن تنصاع لرغباته الصغيرة.لكن اللافت في تجربة هذا الشاعر الذي ينتمي إلى جيل الثمانينات، اقتحامه نادي أصحاب الأعمال الكاملة مبكراً، من دون فحص لمخاضات هذه المغامرة. بعض قصائده لا يعدو كونه اختبارات أولى في تلمّس أدوات الشعر. ففي مجموعته الأولى “ضيوف يثيرون الغبار” (1994)، تتوضّح حيرة البدايات، بين قصيدة خاطفة تعتني باليومي، وأخرى تحاكي تجارب من حقول شعرية أخرى (ولا سيما تجربة سليم بركاتوسوف يصادف القارئ منعطفاً في آلية هذا الشعر اعتباراً من “كما لو أنك ميت”. إذ يهتدي الشاعر الى ذاته من دون عناء. القصيدة هنا أشبه ما تكون بأغاني البوب في ارتجالاتها العاطفية وطبيعة عمارتها السردية. ما يمنحها شحنة درامية تنبثق من قوة المشاعر، لا من قوة الفكرة الشعرية. وهي تعبير صريح عن هشاشة الفرد في مواجهة طغيان الحب والغياب والخسارات المتتالية. هذا الصعلوك بامتياز يجاهر علناً بخيباته، ما يجعله يعوّل على الآخر في قبوله كما هو في عزلته ودماره: “لا تفعل شيئاً من أجلي/فأنا مجرد شخص منسي وموحش/مثل وردة في مزهرية جفّ عليها الماء/مثل خشب في باب بيت مهجور”. يراهن ديركي على حرارة اليومي في تشكّلاته الأولى من دون مراجعة بلاغية للنص. في “وحوش العاطفة” يكشف عن آلامه، بل يتهم نفسه في بعض نصوصه بالنذالة أمام فداحة أخطائه في فاتورته اليومية “إنني نادم دائماً/وكل يوم تقريباً/كلما تذكرت البارحة”. في تقديمه للمجموعات الخمس، يقول سعدي يوسف: “ليس في إمكانك الفصل بين ديالوغ الكائن اليومي والنص الشعري. إنهما متداخلان تداخلاً لا يتحمّل العبث”. ذلك أن ديركي لا يخضع قصيدته إلى اختبارات لكشف العطب. حتى أن بعض نصوصه تبدو كما لو أنها مجرد أفكار قصائد. هكذا فإن “الأب الضال” عنوان مجموعته الأخيرة تشي بانتهاكات لغوية وسردية أبعد تعيد للتجربة ألقها. الشخصي هنا هو المرجعية وعليه تتلوّن القصيدة بالداكن حيناً، وبالدهشة في السرد أحياناً. إن نظرة فاحصة لتضاريس هذا الشعر تكشف عن لايقينية هذا الشاعر الملعون وعدم ركونه إلى ملاذ (يوقّع قصائده في حانات)، ما دام يعيش لحظته بجمالها وانكسارها، بخفّتها وطيرانها العبثي. فالتحليق العالي حيناً في التقاط جوهر الشعرية، يصطدم أحياناً بطيران منخفض لا يقتنص الطريدة المبتغاة، بل يذهب إلى الريش المتطاير فقط.