انطفأ أمس في مستشفى الشرطة القاهري، عميد الرواية العربية نجيب محفوظ. هو ابن الجامعة الوطنية والثقافة الجديدة وابن المقاهي التي تتكوّن فيها حساسية مجتمع مختلفة عن تلك التي شاخت في صالونات المثقف القديم.
  • كان محفوظ (94 عاما) صاحب “نوبل للآداب” يبدو أكثر ميلاً إلى التوازن والمصالحة مع الواقع الراهن. ترتفع درجات المصالحة كلما قرب إلى السياسة أو الدين أو العائلة
  • القاهرة ــ وائل عبد الفتاح
    غريب أن يرحل نجيب محفوظ في أحد شهور عطلته، ومع بداية أفول الصيف. لقد غاب في لحظات انفلاته بعدما ترك صورته الأخيرة عالقةً في الأذهان: حكيم فوق الاختلاف، ورمز عابر للسنوات والعصور الطويلة. صامت. حضوره أكبر من كلماته الشحيحة والمقتضبة.
    استأذن محفوظ دراويشه تاركاً لهم فرصة تلقّي خبر انسحابه بهدوء، وتوقّع الخديعة الوحيدة... إنه لن يعبر اختبار الحياة بعد الرابعة والتسعين! استسلم لتعطّل أجهزة الجسد الذي سيطر طويلاً على نزواته كما سيطر على هزائمه. لم يترك الحشيش والنساء ولا النكات الجنسية على رغم هيئته الوقورة. وعاش صديقاً لمرض السكري أكثر من 44 سنة.
    ولد نجيب محفوظ في عام 1911 في منزل لا تصله الكهرباء. تفاصيل وعيه للعالم تسربت عبر الإضاءة الشحيحة لمصابيح الكيروزين المنتشرة في بيوت “المستورين”، من الطبقة التي ستكون بعد سنوات لاحقة طليعة البورجوازية الجديدة في مصر. عرف أول بطولة خارج حدود البيت والأب مع سعد زغلول، الزعيم القادم من بيئة متواضعة ليعبّر عن أمل البلاد في الحرية والاستقلال وعن آمال الفئات المهمشة في العبور إلى أماكن اجتماعية جديدة. وهنا، كانت ثورة زعيم “الوفد” على بعد سنوات من ميلاد محفوظ. لكنها كانت الأقرب إلى تركيبته الخاصة التي جمعت التناقضات في سلام شخصي واجتماعي فريد. تلك الشخصية المتمردة، لكن ليس الى حد التطرّف... والمخلصة للتقاليد القديمة، لكن ليس إلى حد الجمود.
    ترك محفوظ حي الحسين في مصر القديمة لينتقل إلى حي العباسية، فردوس الطبقة الوسطى الجديد وأحد مصانع وعيها وملاعب وجدانها.
    لم يكن صاحب “الثلاثية” أسير ازدواجية التعليم المدني والأزهري كما طه حسين، ولا موزعاً بين عشقين مثل توفيق الحكيم الممزق ثقافياً بين الشرق والغرب، بل كان الحالة الوليدة لمثقف مصر الحديث الذي يشحن وجوده الاجتماعي من ثورة التغيير، وبدايات مراحل جديدة في تاريخ مصر.
    خاض محفوظ مغامرة الكتابة بينما أبقى على قناع الموظف المنضبط الذي يخفي عن زملاء الوظيفة أنه “أديب”، مستجيباً في ذلك لنصيحة مؤلف قصص الأطفال كامل الكيلاني. وها هو يحاكي في “أولاد حارتنا” بناء الأفكار في المؤسسة الدينية، ويوصل نقده سلوك السلطة السياسية إلى حدود الفكاهة السوداء وهلوسات “المساطيل”، كما ظهر في “ثرثرة فوق النيل”. لكن على رغم ذلك، نادراً ما كان يصطدم بالسلطة السياسية أو الدينية أو الأخلاقية، نجيب محفوظ “صورة” المثقف الحديث الباقية من تلال مزدحمة بالصور والشخصيات. وإذا سألت شخصاً عادياً عن المثقف الذي يعرفه اليوم، لن يتردد في أن يذكر لك اسم نجيب محفوظ. فهو يحتل مساحة كبيرة وحده. بلا تفاصيل. إنها نوبل والسينما. جائزة التقطها من غرب ظالم دائم في مخيلتنا، وسينما حكت عن أبطال لهم ملامح واقعية، ربما أكثر واقعية من المتفرجين أنفسهم. أبطال “الثلاثية” أصبحوا هم الواقع “سي السيد” وأمينة... ذكورة وأنوثة الاستبداد الشرقي المغرم بالقهر والمتعة. واقعية حارقة حينما تحاصر البطل بأسئلة على مفترق طرق. شادية فى “زقاق المدق”، وعمر الشريف في “بداية ونهاية”، ونور الشريف في “السراب”. الأبطال حائرون والأديب يغيّر زوايا اقترابه من الفلسفة وعلم النفس وتشريح المجتمع. أكثر ما يعشقه هو فكرة الأدراج. يضع في كل درج جزءاً من حياته: الوظيفة والكتابة والشلة والبيت والعائلة والمتع المنفلتة! كل درج له قانونه الخاص وتاريخه السري. نجيب هو النقطة المشتركة الوحيدة. يمكن أن تراه كما تريد. حمّال أوجه تقليدي. مطيع في السياسة. له “شطحات” في الكتابة، ملحد أو مؤمن. هو كل هذا.
    قد تحذف الثقافة السائدة الآن من سيرته كل ما تريد ليبقى مجرد رجل “بركة”، عاش طويلاً وحقق النصر لمصر في المحافل الدولية. ليس إلا! ومن المرجّح أنّها لن تتطرّق الى أفكاره، أو انحيازه للعلم حتى لو كان على حساب الايمان. غداً ينسى الوافدون الجدد أن “أولاد حارتنا” أهم ما فيها أنّها كسرت تابوات راسخة ومهّدت الطريق.
    أقسى ما في الموت هو الاختصار. تتمرد طوال حياتك على العائلة والثقافة السائدة. وعندما يهمد جسدك، تتسلّمك العائلة وتتمدد مستسلماً لطقوس الثقافة السائدة. كيف سيُختصر نجيب محفوظ؟ الخوف من أن يتحول وهو فى القبر الى سلطة، وهو الرجل المتواضع، وأن تمنع الطريقة التى رتّبت فيها الدولة جنازته (الـ“عسكرية”) احتفالاً شعبياً بالحياة وبالخروج عن الطاعة. الرجل الكبير هو متمرّد في المقام الأول: على رغم أنه كان يضبط حياته على ساعة مقيمة في جيبه. قبل ذلك، حُمل جسد توفيق الحكيم على عربة مدفع، واليوم يلحق به نجيب محفوظ في جنازة عسكرية. من منهما كان يحلم بشكل جنازته!