هناك ما هو أسوأ من الخطأ الفظيع الذي ارتكبته شركة لبنانيّة كبرى، تستثمر ماركة عالميّة لصناعة الترفيه وتوزيع المنتجات الثقافيّة، إذ نشرت صورة لأحد جنود العدوّ في صدارة اعلان يريد نفسه تحيّة للجيش اللبناني في عيده! الأسوأ هو طريقة الاعتراف بالخطأ، والاعتذار عنه. هذا الخطأ القاتل كان من شأنه أن يهزّ أركان الجمهوريّة. لكننا في «اتحاد المزارع اللبنانيّة» التي يحكمها إقطاعيّون وأمراء طوائف وقطّاع الطرق. والشركة المذنبة ـــ وتملكها عائلة هي من أركان النظام الطائفي المافيوي ـــ ارتأت أن تختبئ خلف الفريق الذي يدير على فايسبوك صفحتها الخاصة ببيع بطاقات العروض والحفلات الفنيّة في لبنان. هكذا صار المشرف على صفحة الفايسبوك كبش الفداء، وباض بإسمه لا بإسم مشغّله، بياناً عبثيّاً، بالكاد يعترف فيه بالخطأ ويعتذر عنه.
هذه الاستغلالات الديماغوجيّة للجيش اللبناني، تأكيد على ركاكة الولاء للمؤسسة الوطنيّة
يا للمناورة «العبقريّة» على الطريقة اللبنانيّة: نعيّن «مذنباً بديلاً» بالنيابة عن «المذنب الأصيل»، ثمّ نحوّله بسحر ساحر إلى… ضحيّة! ضحيّة «حملة ممنهجة» يقول البيان، إذ تمّ «استغلال هذا الخطأ («الطفيف» في النهاية، إليس كذلك؟) للتعرّض لسمعة شركتنا من باب التشكيك بوطنيتنا!». لَهْ، له، سلامة وطنيّتكم! يعني باختصار على عشرات آلاف المواطنين الذين عبّروا عن غضبهم على المواقع الاجتماعيّة، أن يعتذروا من الادارة الالكترونيّة للتسويق التي (كل ذنبها أنّها) روّجت لصورة جندي صهيوني، لأنّها لا تعرف الفرق بينه وبين الجندي اللبناني!من البديهي أن إدارة الشركة الاساسيّة هي المسؤولة قانونيّاً وأخلاقيّاً عمّا ينشر على صفحتها، وكان عليها هي أن تقدّم توضيحاً للرأي العام، واعتذاراً صريحاً ومجلجلاً للأمة، ولها بعد ذلك أن تلاحق المسؤولين المباشرين وتحاسبهم. علماً أن شركة اختصاصها الصورة وتقنيات التواصل والخطاب البصري والترويج، يبدو ذنبها مضاعفاً في هذه الحالة. بإسم أيّة قيم وطنيّة تمجّدون الجيش الوطني، بل تتاجرون بصورته، وانتم لا تفرّقون، على مستوى الهويّة البصريّة على الأقل، بينه وبين جيش العدو؟ هل نحن أمام زلّة عرضيّة، أم «انزلاق لا إرادي» يسلّط الضوء على واقع مرير؟ هناك فئة من الجيل الجديد (محصورة حتّى الآن لكن ليس لوقت طويل!) تنشأ اليوم في بيئة مستلبة، تدّعي «السياديّة» زوراً وبهتاناً، بيئة غربية الهوى، متعالية عن واقعها وكارهة لمحيطها. الشاب الذي اختار صورة جندي اسرائيلي لإعلانه (المسفّ في كل الاحوال شكلاً ومضموناً)، لم يقع في السهو أو يرتكب خطأ «تقنيّاً»، بل إنّه يفتقر في أفضل الأحوال إلى تربية وطنيّة صحيحة… ويمكن أن نجاذف ونقول إن «فعلته الناقصة» تفضح لاوعي بيئة حاضنة ترى في اسرائيل جاراً أو صديقاً، بل نموذجاً يُحتذى. الصورة لم تلبث أن سُحِبَت، لكن الاعتذار الوقح، المتعنّت، يؤكّد ألا مكان للاعتباطيّة في هذا النوع من الأخطاء. إن الكارثة الأعظم في هذه القضيّة، تكمن في الوعي المضروب، المنخور، لجزء من النخب الجديدة. والجريمة الأكبر هنا، تكمن في الجرأة على التقليل من أهميّة الجريمة. «كلّها صورة في النهاية» يكاد يقول البيان، قبل أن يستأنف وصلته «الوطنجيّة»، ويروح يمنّن الناس بحبّه للجيش.
أما كلّ هذه الاستغلالات الديماغوجيّة للجيش اللبناني في عيده، بقصد الدعاية والترويج لشركات وبضائع، فليست سوى تأكيد على ركاكة الولاء للمؤسسة الوطنيّة… وما هذه الاستغلالات التي تنبغي ملاحقتها قانونيّاً بتهمة تسليع الرموز الوطنيّة الكبرى، إلا الدليل القاطع على كوننا شعباً بلا أخلاق وطنيّة، ولا يملك حدّاً أدنى من الانتماء على مستوى الوعي والممارسة. إننا «قرطة عالم مجموعين» (بتعبير زياد الرحباني) يقف مفهوم الوطن لديهم عند حدود «البزنسة» والمنافع الخاصة، والباقي أدبيّات غيبيّة، ومشاعر سطحيّة، وفولكلور أجوف.