يصعب أن يجد المرء مدخلاً للكلام على شخصية مثل كارلوس كلايبر (1930 ــــ 2004) في الذكرى العاشرة لرحيله. يصعب وصفه بكلمة معبّرة ويعزّ علينا إطلاق لقبٍ صائبٍ عليه في زمنٍ انحدرت فيه قيمة الألقاب إلى مستوى العبث. عبقري؟ قيل عن نجم البوب «ميكا» بأنّه عبقري! فنان؟ موسيقار؟ مروان موسيقار وملحم أيضاً! في هذه الحالة، لا يمكن القول سوى: الألقاب الفارغة لهؤلاء ... ولكلايبر الخلود.
كارلوس كلايبر هو قائد أوركسترا مولود في برلين لعائلة نمسوية هاجرت إلى الأرجنتين عندما كان طفلها في الخامسة من عمره، ومن هنا اسمه اللاتيني، كارلوس، أي كارل بالجرمانية. والده إيريش كان من أهم قادة الأوركسترا في النصف الأول من القرن العشرين (الرعيل الأول بعد اختراع التسجيل الصوتي). مطلع الخمسينيات، عاد كارلوس إلى أوروبا وبدأ دراسة الكيمياء، قبل أن يتجه نهائياً إلى الموسيقى التي كان قد بدأ دراستها في الأرجنتين. اتسم كلايبر بالروح الطيبة والمرحة والبسمة البريئة في التعامل مع الموسيقيين الذي يعملون تحت عصاه «السحرية». كل هذا مقابل قسوة فولاذية لا تقبل نقاشاً ولا مساومة في بلوغ النتيجة الأفضل. «إنه من كبار قادة الأوركسترا في القرن العشرين» قال عنه عام 2008 زميله الذي تركنا أول من أمس كلاوديو أبادو (راجع المقالة المقابلة)، ثم تابع: «إن لم يكن الأكبر» (راجع المقالة أقصى يسار الصفحة). في 1954، قدّم أول أمسية حية له، وفي السنوات الأخيرة من حياته، اعتزل المهنة وانعزل يتأمّل في الحياة والموسيقى ولم تفلح المحاولات الكثيرة ولا «الشيكات على بياض» في إقناعه بالعودة إلى العمل، ولو لتسجيل عمل واحدٍ أو تقديم حفلة أخيرة.
إنه الموسيقي الحرّ الذي لم يستطع أي ناشر أو منتج أو جهة تنظيمية إملاء شروطٍ عليه. إنه من القلائل الذين فرضوا إيقاعهم في العمل: لا تسجيل ولا حفلة إلا إذا توافرت رغبة عميقة بذلك. احترمت «دويتشيه غراموفون» (الناشر الشهير الذي تعامل معه كلايبر) هذا السلوك. وخسر القائد الفريد وراثة «أوركسترا برلين الفلهارمونية» من كارايان بسبب هذه المقاربة الخاصة للمهنة. عام 1989، كان المرشّح الوحيد لوراثة «الملِك»، لكنّ «برلين» لا تتحمَّل على رأسها شخصية مزاجية، حيث المقصود بهذه الصفة سلوك إنساني حر وصادق وروح مضطربة يحركها بركان من الأحاسيس. وقع الخيار يومها على كلاوديو أبادو. ارتاح كلايبر من هذه المسؤولية. بقي وفياً لاستراتيجيته الخاصة: أقود فقط العمل الذي أحبّه. وأقوده متى أريد.
هكذا، بخلاف كارايان مثلاً، ترك لنا كلايبر ريبرتواراً محدوداً من التسجيلات، لكنه ريبرتوارٌ «نظيف» يراوح بين الممتاز والمذهل، ويبلغ أحياناً قمةً لا يفكّر قادة الأوركسترا اليوم حتى في بلوغها، فكيف بتخطّيها؟! كان كلايبر قائداً غير منهجي: سجّل لبيتهوفن السمفونيات: الرابعة (مرتيْن)، الخامسة، السادسة والسابعة (3 مرات). لم يسجِّل الثالثة! ولا حتى التاسعة! ولا أي كونشرتو! لموزار سجّل السمفونيات: 33 و36 ... لم يسجل الـ 41! ولا حتى الـ 40! ولا أي أوبرا ولا أي كونشرتو بيانو أو غيره! لم يسجّل أي نوتة لباخ، وهنا لا تكفي علامة استفهام واحدة. الشخصية الأقرب إلى كلايبر في مجال الأداء في الموسيقى الكلاسيكية هي عازف البيانو الكندي غلان غولد، مع فارق بسيط: الثاني كان كثير الكلام. مقابلاته بالعشرات، إلى درجة أنه أجرى مرةً مقابلة مع نفسه حول نفسه! أمّا كلايبر، فظل يقال إنه لم يعطِ أي مقابلة حتى 2011 عندما صدر تسجيل نادر له، هو الأقدم لغاية اليوم (1960)، وحوى مقابلة بالألمانية (حوالى 6 دقائق)، كان قد أعطاها في الاستراحة أثناء تقديم أمسية موسيقية (راجع أسفل الصفحة). ثمة قاسم مشترك بين الشخصيّتين هو علاقتهما بفئة «الكونشرتو». قاسمٌ أدى إلى عدم لقائهما في عمل مشترك. هذه الفئة تعني «قائد» و«عازف منفرد».
إذا استثنينا عملين من هذه الفئة (كونشرتو البيانو لدفورجاك، مع الروسي ريختر وكونشرتو التشيلو لنجل باخ مع إرين غودِل)، لم يتطرّق كلايبر إلى هذا النوع من المؤلفات لسبب بسيط يكمن في رؤيته للعمل وإمكانية وجود رؤية مختلفة للشريك الثاني فيه (أي العازف المنفرد، مثلاً البيانو في كونشرتو البيانو والأوركسترا) وبالتالي التصادم. غولد لم يكن حذراً إلى هذه الدرجة، فقد سجّل كونشرتوهات عدة، لكنه كان إمّا يتفق مع القائد (علاقته بفلاديمير غولشمان) وإما يفرض رؤيته للأداء (علاقته بليونارد برنشتاين) ... لهذا السبب، إنها لمجازفة كبيرة أن يجتمع غولد وكلايبر، فمن المؤكد أنّ عنادهما لن يسمح بأن يتنازل أحدهما للآخر.
قدم كلايبر أقل من مئة أمسية حية خلال نصف قرن (هذا رقم لا يقاس بنشاط سنة واحدة لغيره من الموسيقيين). لكنه قاد عروض أوبرا كثيرة لبضعة عناوين كان يحبها (ريشارد شتراوس، يوهان شتراوس، فاغنر، فيبير، فيردي، ...)، تم تصوير بعضها، تماماً كبعض حفلاته الأخرى (من بينها قيادته لـ«أوركسترا فيينا» في رأس السنة عامي 1989 و1992). في عام 2004، رحل بصمت، ليرقد في قرية هادئة وسط سلوفينيا، مسقط رأس زوجته، راقصة الباليه التي كانت قد رحلت قبله ببضعة أشهر.