ترجمة وتقديم: رشيد وحتي
يظنُّ مثقفّو اليمين أنَّ كرة القدم دليل على أن الشعب ـــــ وفي حد أدنى جماهير المَلاعب ـــــ يفكر بقدمَيْه. لتفنيد هذا الادعاء، وبما أننا على أبواب افتتاح مونديال الدوحة، ارتأينا في «كلمات» اللجوء إلى كلمة أحد أبرز كتّاب اليسار الشغوفين بكرة القدم، هو الذي اشتهر بأنّه كلما كان مشغولاً بالفرجة في بيته، يضع على بابه ملصقاً كَتَبَ عليه: «مغلَقٌ من أجل كرة القدم». لإدواردو غاليانو (19401 ــــ 2015) كتابٌ في الموضوع بعنوان: «كرة القدم تحتَ الشَّمس وفي الظِّل» (نقله صالح علماني إلى العربية، تحت عنوان: «كرة القدم بينَ الشَّمس والظِّل»)، يمزج بين البورتريه لأبرز اللاعبين الذين يروقونه، ومديح نُبل كرة القدم كرياضة تنافسية ولعبة جماعية خلَّاقة للجَمال.

لكن التناول الأهم والأجرأ في الكتاب يبقى نقده لاحتلال مساحة العشب الخضراء من قبل لوبيات تجارية، هي من صميم الرأسمالية الجشِعة، ومتطفِّلة على كرة القدم. بذلك، يدين خضوع الأندية الكروية لسلطة الأوليغارشية الماليَّة، والترويج الإعلامي الضَّحل للمباريات ومجرياتها من قبل معلِّقين أقرب للفكاهة والولاء للرأسمال منه للتعليق الرياضي الاحترافي، إلى جانب فساد الفيفا والاتحادات القُطْرِيَّة، وإضفاء الطابع الفولكلوري على المشجِّعين في صورة ألتراس متعصِّب، بدل الجمهور الفرحان للعصر الذهبي للكرة. غادَرَنا غاليانو للأسف عام 2015، لكنه ترك لنا في كتابه عُدَّة نقدية ما زالت صالحة لتفكيك آليات المال القذِر التي تفسد نُبْلَ اللُّعبة. في عام 1996، بعد عام على صدور «كرة القدم تحتَ الشَّمس وفي الظِّل»، التقى الصحافي جيرار دوفيين عضو فريق تحرير جريدة L’humanité الفرنسية، بأحد أقوى أصوات وضمائر أميركا اللاتينية، في مقر إقامته في مونتفيديو. كان له معه هذا الحوار حول الكتاب والشغف بالمستديرة وتداعياته السياسية
لماذا شرع واحد من أهم أصوات أميركا اللاتينية ومن المثقفين المحترَمين، في الكتابة عن كرة القدم؟
ـــ كرة القدم جزء من الحياة. بحالات الشغف والرفض التي تثيرُها، لا يمكنها أن تترك أي كاتب غير مبالٍ. كرة القدم تشبه الديانة من خلال الإخلاص الذي يَدين به أوفياؤها لها، ومن خلال الريبة التي ينظر بها المثقفون إلى ظواهِرِها. إذا كان كيبلينغ، سخر، قبل قرنٍ، من كرة القدم ومتفرّجيها، فإن بورخيس، حاز أهمية أكبر في قدح المستديرة: ففي عزِّ الديكتاتورية، عام 1978، يوم كان الفريق الوطني الأرجنتيني يخوض أول لقاء له في المونديال، ألقى محاضرةً حول موضوع الخلود.

ما الذي يشكِّل، في جميع الأزمنة، ذريعةً للمثقفين من أجل رفض كرة القدم؟
ـــ يظنُّ مثقفو اليمين أنَّ كرة القدم دليل على أن الشعب يفكر بقدمَيْه: كرة القدم هي الديانة التي يستحقها، بما أن الغريزة الحيوانيَّة تفرض فيها نفسها على العقل. أما مثقفو اليسار، فيُخرِجون هذه الرياضة من حساباتهم، لأنها تُخصي الجماهير وتنعطف بزخمهم الثوري (..). لكننا لَحَظْنا، في بداية القرن العشرين، على ضفاف ريو دي لا بلاتا (الخليج المثلث الذي يشكِّله ساحلا الأرجنتين والأورغواي المتقابلان)، وبعدما كانت كرة القدم رياضة المترَفين الإنكليز، نشوء نوادٍ أسسها عمَّال الأوراش الملاحية والسكة الحديدية. ساعتئذٍ، أدان بعض القادة الفوضويين والاشتراكيين هذه «المناورة الإمبرياليَّة لِأَسْرِ الشعوب المقهورة في حالة من الصبيانية»، رغم أن «نادي فتيان الأرجنتين» كان يسمى في البداية «نادي شهداء شيكاغو»، تخليداً لذكرى عمَّال اغتيلوا في الأول من أيار (مايو). وفي الأول من أيار أيضاً، تأسّس نادي Chacarita (أحد الأحياء الرئيسة في العاصمة) في بوينس آيرس، في مكتبة عامة فوضوية. وثمة مثقفون مجَّدوا كرة القدم، ورأوا في هذه الرياضة ما تثيره من شغف. وهي الحالة التي تنطبق على غرامشي الذي انحاز إلى «سؤدد الصدق الإنساني الممارَس في هواء حُرٍّ».

لكنَّ كرة القدم كانت دوماً وسيلةً تستعملها الديكتاتوريات والحكومات المناهضة للديموقراطيَّة
ـــ كرة القدم والوطن كانا دوماً توأمين سيامِيَّيْن، لتماهي المتفرِّج-المواطِن مع الرياضة: وقد عرف الديكتاتوريون كيف يلعبون على وتر هذا الترابط: في عامَي 1934 و1938، عندما فازت إيطاليا بالمونديال، حصل اللاعبون على الكأس باسم وطنٍ يمثله موسوليني. ففي بداية ونهاية المقابلات، كانوا يوجّهون التحية الفاشية (رفع اليد مفتوحةً تحيَّة للدوتشي). عقوداً بعدئذ، في إيطاليا دائماً، تيسَّر لسيلفيو برلوسكوني، مالِك نادي «ميلانو» وبعض القنوات التلفزيونية، أن يفوز بالانتخابات بشعار Forza Italia (هَيَّا، إيطاليا)، وهي صيحة نشأت في الملاعب؛ كان برلوسكوني قد قدَّم وعوداً انتخابيَّة بإنقاذ الاقتصاد مثلما فعل بالنسبة إلى ناديه. أما دكتاتوريو أميركا اللاتينية، فجعلوا واجباً عليهم أن يرهنوا أنفسهم للرياضة انطلاقاً من المعادلة التالية: «كرة القدم هي الشعب، السلطة هي كرة القدم، وأنا هو الشعب». أما نشيد Pra frante Brasil (أنظري أمامك، يا برازيل)، الذي تمَّ تأليفه للمنتخب عام 1970، فقد صار نشيداً وطنياً رسمياً لحكومة الجنرال ميديتشي Medici، الطاغية الذي استعرض ذاته أمام عدسات كاميرات للصحافة الدولية، مخلِّداً صورته وهو يمسك في قبضته الكأس التي فازت بها البرازيل. أما في الأرجنتين، فإن الديكتاتور فيديلا، استخدم لصالحه صورة أحسن لاعب في مونديال 1978، مواطنه ماريو كيمبس. أما الجنرال بينوشي، فقد تحكَّم بأقدار نادي Colo-Colo، مثلما تحكَّم نظيره البوليفي غارسيا ميسا بأقدار نادي Wilstermann.

هل «تُبَرْهِنُ» كأس العالم 1978، التي نُظِّمت في الأرجنتين في عز الدكتاتوريَّة، على أنَّ كرة القدم تُسْتَعْمَل كقناع للديكتاتوريين؟
ــــ بعد سنتين على الانقلاب الذي قاده الجنرال فيديلا، جرت مباريات كأس العالم خلال حقبة أكثر الديكتاتوريات دمويةً في تاريخ الأرجنتين. لم تتم أية إشارة أو تلميح إلى آلاف حالات الاختفاء القسري. ولكن، بعد سنتين، خلال المونديال في مونتفيديو، سمعنا في الملاعب، للمرة الأولى، صيحات مناهضة للديكتاتورية، التي عاشت فيها الأورغواي مختنِقة منذ عام 1973. صمت الناس لمدة سبع سنوات، ولم تظهر الاعتراضات والاحتجاجات إلا في ملاعب كرة القدم.

لكن، ألا يعطي مثال كأس العالم 1978 المثقفينَ الحقَّ في تطليق كرة القدم بلا رجعة؟
ــــ كلُّ الأهواء الإنسانية، ككرة القدم، يمكن التلاعب بها، خصوصاً أنها ممارسة عالميَّة، فهل بوسعها أن تفلت من هذا المآل المأساوي؟ إنها أيضاً جيب من جيوب المقاومة. مثالاً على ذلك، عام 1942، ارتكب لاعبو نادي «دينامو كييف»، في عز الاحتلال النازي، جنون هزيمة المنتخب الألماني، رغم أنه تم تحذيرهم: «إذا انتصرتم، ستموتون». دخل السوفيات إلى الملعب مستسلِمين، مرتعشين من الخوف، ولكنهم لم يستطيعوا تقبُّل فقدان كرامتهم، ففازوا وتمَّ إعدامهم بقمصانهم الرياضية. عام 1934، بينما كانت الباراغواي وبوليفيا تَتَذَابَحَانِ، ملقيتين بالآلاف من جنودهما إلى ولاية Chaco، المتنازَع عليها، قام الصليب الأحمر الباراغواياني بإنشاء فريق كرة قدم كان يلعب في الأرجنتين والأورغواي لجمع الأموال اللازمة لعلاج جرحى المعسكرَيْن المتحاربَيْن. بعد ثلاث سنوات، خلال الحرب الأهلية الإسبانية، كان فريقان جوالان يرمزان إلى مقاومة الجمهورية المعتدى عليها. بينما كان فرانكو، مدعوماً من هتلر وموسوليني، يغتال معارضيه، كانت نخبة كروية تجول أوروبا لجمع أموال دعم الجمهوريين والدعاية لهم. وكان نادي برشلونة، الذي اغتيل رئيسه من قبل الفرانكيّين، يفعل الشيءَ نفسَه في المكسيك والولايات المتحدة الأميركية. في عز حرب التحرير عام 1958، كان المنتخب الجزائري يلعب بقمصان تحمل ألوان العلم الوطني (كما شكَّلته جبهة التحرير الوطني)، وكان من بين اللاعبين نجوم منضوون في أندية فرنسية. ولكن هذه النخبة لم تلعب في مواجهة المغرب، أو في لقاءات تنظمها النقابات العمالية، وفي بعض البلدان العربية وبلدان أوروبا الشرقية. وكان أن اتخذ الفيفا، على إثر ذلك، قرار تعليق عضوية المغرب وتوقيف كل اللاعبين الجزائريين عن اللعب. بعد عام 1962، تمَّ من جديد ضمهم إلى النوادي الفرنسية التي لم تكن لتستغني عن مواهبهم.

ألا يبدو لك مؤسِفاً، اليوم، أن يكون لاعب كمارادونا مؤثِّراً على الشباب أكثر من أي فنان آخر؟
ــــ مع عولمة المعلومة، وسيطرة أصحاب الرساميل على التلفزيون، صار للَّاعب الرياضي أثر كبير، صورته تُسْتَعْمَل لغايات سياسية أو تجارية محضة، وكثيراً ما كان ذلك رغماً عنه. وهذا راجعٌ — أكرر ذلك — إلى كون كل شغف إنساني قابلاً للتحوير. مارادونا أكبر لاعب في العالم إثارةً لموجات من الشغف خلال العقد الماضي، فهو مبدع عبقري، ارتكب جريمة اللعب بالقدم اليسرى، وإذا تصفحت قاموس Petit Larousse، ستجد فيه أنّ «أَعْسَرُ = عكس ما ينبغي فعله». إضافة إلى ذلك، فقد فضح كل ما أرادت السلطة تمريره بصمت. واعترافه (بالإدمان) شجاعة، لأنه رسالة موجهة إلى الشباب. وهو يصف فيها كيف أن حياتَه صارت جحيماً، أحرق لهيبه حتى أسرته. لو كنتُ أنا أو أنت، من قال هذا، أي أثر سيكون لتصريحاتنا؟ التصريحاتُ هي لمارادونا.. ففي نهاية القرن هذه، حيث أصابَ البرودُ هذه الرياضة، وصار من اللازم الانتصار، صار ممنوعاً الاستمتاع بالفرجة. ومع مارادونا صارت تحدث الحالات النادرة حيث تكون الفانتازيا فعَّالة. مأساته تتجلى في أنه يحمل عبئاً على كتفه اسمه مارادونا. كان أن تفوّه ذات يوم بعبارة رهيبة تلخّص وضعيته كنصف إله: «أنا مُحْتَاجٌ لِأَنْ يُحْتَاجَ إِلَيَّ». وهي نتيجة للهيمنة التي أُدينها أعلاه.