كتب مارون عبّود، ذاتَ يوم: «الكتابُ يتيمٌ مسكينٌ في لبنانَ، وأين يَبيت الفقير المُعدَم!! يا ذُلّ الكتابِ في لبنانَ.. تنامُ الكتبُ في مُستودعاتِها لا تحلمُ بغيرِ مُداعبةِ الفئرانِ ومُغازلةِ الجرذانِ. أرأيت كيفَ استحالَ بلد الأبجديّةِ بلد موزو وتوميغان؟! النافذون من الأمّة لا ينشدون غير جذعانِها أصحاب الزّنانير العريضة، والسّراويل القرقيّة. أولئك هم الذين يكتبونَ المدائحَ بالنّبوتِ، ويخطبون بالبندقيّةِ، ويحيون بالمسدّسِ، فتظهرُ «الشّعبيّة» ويبلغُ الأدب الرّخيص» (1).
مارون عبّود (1886 ـــ 1962)، الأديب اللبناني الذي أصّلَ تجربةَ الإبداع ِالفكريِّ، فكان أحد روّاده، يُقاربُ ما يعيشُه لبنانُ اليوم، من أزمةٍ ثقافيّةٍ، انطلاقاً من رؤيتِهِ الثاقبةِ إلى الواقعِ الفكريِّ والسّياسيِّ والاجتماعيّ. يمتدُّ نداؤُه المُوجع من أنّات الماضي صوتاً مُلهماً، ليبدعَ نصاً حداثوياً هو مزيجٌ من الرؤيتيْنِ الآنيّةِ والماضويّةِ.

ينسجُ عبّودُ، في المقطع الأوّل، علاقةً وطيدةً مع البيئةِ التي أنتجتْ نصّه أوّلاً، ومع القارئِ ثانياً، مُستعيناً بالخيالِ أحد أدواتِه في إبراز رؤيته إلى الواقع الثقافيِّ المُهترئ الذي يعيشه لبنان؛ فيلجأ إلى المفارقة السّاخرة، وإلى الصّورِ الفنيّةِ التي تتآلف في علاقات عدة لإنتاج المعنى السياقي العام: الواقع الثقافي المُخيّب للآمال، وما الصور الخياليّة التي استعان بها سوى استجابة لحالته النّفسيّة؛ إذ يُشبّه الكِتاب بإنسانٍ غارقٍ في سُبات لا يحلم سوى «بمُداعبةِ الفئرانِ ومغازلةِ الجرذانِ»، وهذا هو الوجه المرئيّ للخيال، الذي يستثير عاطفة القارئ؛ فيتفاعل معه، ويدفعه إلى اتّخاذ موقف ممّا يقرأه. وهكذا، تُوحي الصورة بشيوع الظّلام والخوف والعتمة، وهذا ما لا يليق بلبنانَ الذي لطالما كان منارةَ العلمِ والمعرفةِ.
يبدو جلياً أنّ مارون عبّود يُصوّر ما يتعرّض له الكتاب من إهمال وتهميش بوصفه رمزاً للعلم والتّنوير، ما يكشف بنية الخيبة والخوف على الجيل القادم؛ فتراه يقف على أعتاب عالم من التّساؤلات المُرّة، في مقطعه الثّاني: «أرأيت كيف استحال بلد الأبجديّة بلد موزو وتوميغان؟!»، إذ يستعينُ بهذا التشبيه في سبيل تكوين صورة جزئيّة تُحيل إلى مشهدٍ ثقافيٍّ عام هزيلٍ، مُنتقداً أبناء وطنه الذين يتباهون باستعمالِ اللغة الأجنبيّة الطارئة والدّخيلة، مُتخلّين عن أصالتهم وهُويّتهم الوطنيّة ولغتهم العربيّة الضاربة جذورها في عمق التاريخ.
يتجلّى أسلوب عبّود الفريد الناطق برؤية إلى جواهر الأمور، استعماله الصورة المُبتكرة الحسّية الملموسة السّاخرة، مثل: «السّراويل القرقيّة»؛ فالقَرْق هو صوت الدّجاجة التي تحتضنُ بيضَها أو صيصانها، و«عَمْ يقرق» بالعاميّة تعني: يُكثر من الكلام الفارغ. وهذه السّراويل القرقيّة بزنانيرها العريضة، المُزيّنة المُزخرفة، تصوت كأنّها «تُقرق». وهذا التّعبير، كما يبدو لي، صورة مُبتكرة كاشفة ساخرة.
ينتقد أبناء وطنه الذين يتباهون باستعمالِ اللغة الأجنبيّة


ينتقل عبّود بعدها إلى توظيف تبادل المُدركات وتراسل الحواسّ؛ فيخلع حاسّةً على حاسّةٍ أخرى، مثل: «يكتبون المدائح بالنّبوت، ويخطبون بالبندقيّة، ويحيون بالمسدّس» ليُصوّر انحطاطَ الفكرِ، وتحوّل الذّائقة الإبداعيّة؛ إذ تطفو السّطحيّة، ويحتلّ المتنفّذون أصحابُ السّلطة والمال، المشهدَ الثقافيَّ المخادعَ، ما يمنح الصّور الشّعريّة لديه بُعداً جماليّاً وعمقاً تخيّلياً. كما تتضاعف إيحاءاته، لتُصوّر غلبة الأدب الرخيص والشّعبوي، وشُيوع خطابات المدائح التي تُبجّل أصحابِ النّفوذِ والسّلطةِ وزعماءِ الحربِ والطّائفيّة في لبنان، مُعبّراً عن الأقلامِ المأجورةِ التي تجعل من حبرها بوقاً ناطقاً لغايات تَكسّبيّة.
ما أشبه الأمس باليومِ، كأنّ مارون عبّود يقف على أطلالِ الفكر في وطنه لبنان، تتراءى له مشاهدُ التّصفيقِ والتّزميرِ من أشباهِ المُثقّفين، وعصفُ الزّيف الذي ينشبُ مخالبَه ليصنعَ ثقافةً مشؤومة، موبوءةً بقيمِ الانصياع؛ فيختار العزلةَ والنّجاة بنفسه، علّه يُحرّر دهشته من واقعٍ يزداد إمعاناً في مُستنقع الجهلِ، والخرابِ الفكريِّ والسّياسيِّ الذي يحياه وطنه، وكأنّه يُعيد خيبته من جديد، فيسأل: «أرأيت كيف استحال بلد الأبجديّة!؟».

* (1): مارون عبود ــ «حبر على ورق» (مجموعة من المقالات الأدبية والاجتماعية والتاريخية) ـــ مصر: «مؤسسة هنداوي» 2012.