تحوم الأشباح في صور طوني مهنّا. لذا أطلق عنوان «شبح» على معرض المقام في غاليري Mission Art حتى 18 أيلول (سبتمبر) الحالي. أعماله الفوتوغرافية تتّخذ من المباني المهجورة المهدّدة بالانهيار إطاراً جامعاً لها تغزوها الأشباح المتجسّدة في قطع من القماش، تتوسّط الصورة متطايرة بألوان متنوّعة، والأرجح ترميزاً لأناس سكنوا هذه الأماكن قبل إشرافها على السقوط، وإبداءً لأسف على العمارة القديمة الجميلة التي تحلّ مكانها عمارة حديثة بلا روح. يلفتُ لجوء مهنّا إلى مصدر الضوء الطبيعي من الشمس نهاراً والقمر ليلاً، ما يضيء الغرف والصالونات والأمكنة الداخلية، مع الاستغناء قدر المستطاع عن الضوء الاصطناعيّ. كأنّ عين المصوّر تشهد بأمّ العين، عبر عدسة الكاميرا وسيطاً، ولا عمليات «فوتوشوب» لاحقاً، بغية إظهارها صوراً واقعية.
«بيت الدين ـ شقلبة في الهواء» (40 ×50 سنتم ــ 2023)

لطالما انجذب الفنان والمهندس مهنّا دائماً إلى العمارة القديمة بسقوفها العالية وقناطرها الداخلية ونوافذها ذات الزجاج الملوّن (vitrage). لذا راح يُعْمِل مخيّلته داخل غرفها وصالوناتها الفسيحة المغلقة كي يُطلق داخلها «أشباحه» القماشية الملوّنة المحلّقة. الأمكنة المهجورة هذه لم تعد تسكنها سوى الأشباح، فقاطنوها الأحياء تركوها إمّا لتصدّع أساساتها، أو لتقادمها زمنيّاً. وفي الحالتين، لم تبقَ صالحةً للسكن، وقد يكون بعض قاطنيها رحلوا بالموت الطبيعي، ولذلك ربما بقيت أطيافهم وأرواحهم في المكان.
نقطة الجذب المركزية في فوتوغرافيات مهنّا هي تفاصيل العمارة القديمة، لا الأشباح المتطايرة، فهو لا ينشد حَرْف أنظارنا عن الأساسيّ بالفرعيّ، فجمال العمارة وهندستها وجانبها المعماريّ التراثيّ هو في بؤرة الجذب ولَفْت النظر. علماً أنّ بعض هذه البيوت طاله دمار جزئيّ وثُقب سقفه أو تآكل الجصّ التزيينيّ فيه أو أصابت شظايا القذائف جدرانه… لكنّ القناطر الداخلية قديمة الطراز صمدت بأناقتها وبهائها التراثيّ.
بؤرة عدسته تميل إلى إبراز فنون العمارة القديمة وروعة تفاصيلها المعماريّة وأهمّيتها التراثية


البيوت هذه التي جالت فيها عدسة طوني مهنّا وعينه الفنّية والهندسيّة، توزّعت على قرى وبلدات في جبل لبنان، وبيروت (قصر بيت الدين وقصر سرسق) وتختلف هندساتها وتتنوّع، وبعضها الآخر في طرابلس وحمّاماتها الأثرية المعروفة بطرازها العثماني. وثمة أيضاً عمارات قديمة في بيروت خالية إلا من ذكريات أصحابها وساكنيها، فالدمار لا يمحو الحكايات والذاكرة من تلك الدور المهجورة، فثمة من عاش هنا وخلّف وراءه قصصاً حميمة وذاكرة لا تزول. تلامس الفوتوغرافيات في هذا المعرض الجميل روح قاطني الأمكنة هذه، وتكاد تُسمعنا أصواتهم.
بؤرة عدسة طوني مهنّا تميل إلى إبراز فنون العمارة القديمة وروعة تفاصيلها المعماريّة وأهمّيتها التراثية. أمّا أشباحه المحلّقة فليست سوى عناصر جماليّة (ملوّنة) متمّمة لجمال العمارة التراثية القديمة التي يسعى إلى تأبيدها في أعماله الفوتوغرافية المتوازنة هندسيّاً وجماليّاً. لكنّ هذه الجمالية تؤثّر فيها سلباً «الأشباح القماشيّة الملوّنة» التي أفرط مهنّا في استخدامها فأوقعت فوتوغرافيّاته في التكرار والرتابة. استنفد حضورها ورمزيّتها حتى فقدت معناها، وكان جديراً به التنبّه إلى ذلك والبحث عن تضمينات أخرى لأعماله.

* «شبح» لطوني مهنا: حتى 18 أيلول (سبتمبر) ـــ غاليري Mission Art (مار مخايل ـ بيروت) ـ للاستعلام: 03/833899