في صيف عام 2004، اضطر الموسيقي البريطاني دايفيد بُوِي (1947) إلى قطع جولته بسبب إصابته بأزمة قلبية. الفتى المجنون الذي غاب تسع سنوات، أثبتت عودته اليوم أنه ما زال قادراً على الإدهاش. «أين نحن الآن؟»، يتساءل في أغنيته الجديدة. هذا السؤال يتجاوز العمل، ليختزل ربما حياة إحدى أبرز الأيقونات الموسيقية في القرن العشرين. الأغنية من ألبومه الجديد «اليوم التالي» الذي يصدر في آذار (مارس) المقبل، ويَعدُ فيه المغني بتجربة جديدة. نرى دمية برأسين: بوي وامرأة، بينما تعرض شاشة خلفهما صوراً من برلين السبعينيات، وتتوالى كلمات الأغنية على الشاشة، يرافقها صوت بوي كمن يرتّل مرثية حزينة. هذا ما يصوّره كليب «أين نحن الآن؟» الذي أخرجه الأميركي طوني آورسلر، حيث يستعيد المغني جزءاً من إقامته في برلين خلال السبعينيات.
بهذه الطريقة، قرّر بوي الاحتفال بعيد ميلاده الـ 66، فأهدى الأغنية في الثامن من كانون الثاني (يناير) إلى محبيه، معلناً صدور ألبومه The Next Day الذي يضم 14 أغنية. هديّة تؤكّد قدرتَه المذهلة على القفز بين الأجناس الموسيقية على مدى أربعة عقود، واحتفاظه بصوته الفريد رغم تقدّمه في السنّ. منذ بداياته، اتّسمت تجربة دايفيد روبرت جونز (اسمه الحقيقي) بالتجريب. عاش حياته في لعبة مرايا مستمرّة، سواء في تغييره الدائم لألقابه أو لمظهره الخارجي، وتنقّله بين أنماط موسيقية عدّة، منها الفولك، والروك، إضافة إلى بحثه في الموسيقى الأفريقية والآسيوية، والإلكترونية، وتعاونه مع جانب كبار المغنين من أمثال فنان الروك الأميركي لو ريد وفرقة «كوين».
لم تقتصر أغنية «أين نحن الآن؟» على صدمة واحدة. بالإضافة إلى جوّها المشبّع بالحزن والنوستالجيا، أحيط العمل على الألبوم بسريّة تامّة طوال سنتين. بعدما كان الجميع يترقّب الإعلان عن الأسوأ في حياة الفنان الستيني الذي تدهورت حالته الصحية، قرر صاحب الاسم المستعار Ziggy Stardust أن لا يموت كما حدث مع صنوه الذي ضمن له الشهرة بعد ألبوم The Rise and Fall of Ziggy Stardust and the Spiders from Mars (1972).
حالة بوي الصحية لم تبدّد إيمان توني فيسكونتي برجوعه، هو الذي يعدّ من القلة الذين آمنوا بقدرة هذا الفنان حتى خلال فترة انقطاعه عن الساحة. أكّد صديق بوي ومنتجه في حديث صحافي أنّه انتظر دوماً أن يتصل به ليخبره عن رغبته في إنجاز ألبوم جديد. وهذا ما حصل فعلاً عام 2010 بعد مرور ست سنوات على آخر ظهور فني له قبل إصابته بنوبة قلبية. يؤكد فيسكونتي منتج بوي منذ عام 1969، أنه حالما سمع صوت النجم على الهاتف علم أنّ مشروعاً موسيقياً وراء اتصاله. ضُربَ المشروع بطوق من السرية، وأُجبر كل مَن ساهموا فيه على توقيع عقد يحظر عليهم الحديث عنه، بينما استمر تسجيل الأغنيات التي كتب بوي كلماتها ولحّن معظمها، نحو ثلاثة أشهر في أحد استوديوات نيويورك. لعلّ «الميجور توم» في أغنية Space Oddity (1969) يشبه بوي كثيراً. ما انفك هذا الأخير يحلّق في سماوات جديدة. نزع صاحب «الرجل الذي باع العالم» إلى ملابس ومكياج وتسريحة غريبة عن جيله، ما أثار الكثير من الجدل. ميله الثنائي الجنس جعله نموذجاً هلّلت له بعض الكتابات في المرحلة. لكنه أثّر من ناحية أخرى في تجربته الموسيقية، وخصوصاً في أميركا كما أكد في حوار أجراه مع مجلة الـ«رولينغ ستون» خلال الثمانينيات.
ترعرع المغنّي في حي بركستون الفقير في ضواحي لندن. ضواحٍ عبّر عنها جيداً رفيقه في الثانوية الكاتب الباكستاني الأصل حنيف قريشي، صاحب «بوذا الضواحي» الذي ألّف بوي موسيقى الفيلم المستمد من الرواية. خلال رحلته، لم يكتفِ بوي بالموسيقى. درس المسرح ومثّل في أفلام تجريبية وكوّن فرقته الموسيقية في الـ 15 من عمره. هكذا قدّم الـ Glam Rock في تجربة «زيغي ستاردست»، قبل أن ينتقل إلى الفانك والسول في التجربة الأميركية مع ألبوم Young Americans (1975). وخلال السنوات الأخيرة من السبعينيات، استقر في برلين التي يستعيدها في أغنيته الجديدة. فترة غنية عمل فيها مع Iggy Pop على ألبوميه The Idiot و Lust for Life الذي حقق شهرة عالمية. كذلك أصدر Heroes (1977) أحد أبرز أعماله. أما سنوات الثمانينيات، فقد رسخته نجماً عالمياً، بينما انتقل في التسعينيات إلى اختبار الموسيقى الإلكترونية ومزجها مع إيقاعات أخرى. فـ«أين صار» بوي في عام 2013؟ الجواب في «اليوم التالي»!