ترك الصحافي المصري هاني درويش الحياة نهار الثلاثاء الماضي. لكن يبدو أنّه نجح في البقاء فيها بشكل ما. صفحته على فايسبوك ما زالت هنا تظهر عليها بشكل متواصل رسائل مكتوبة بصيغة الحاضر عن طريق أصدقائه، في حين بقيت صفحات هؤلاء مشغولة بالحديث عن مواقف جمعتهم به وحياة مشتركة كانت لهم معه. هكذا ظهرت على تلك الصفحات إشارات مكثّفة تروي حياة صحافي شاب نجح في عمره السريع (1974ـــ 2013) في تكوين حالة خاصة لقلم عشق انتاج الاستثناءات حتى في خبر موته الذي تحوّل إلى مانشيت تتناقله الصفحات. في أول الأمر، ظهرت الفاجعة على صفحة الزميل محمد خير الذي كتب «أنعى إليكم صديق عمري هاني درويش».
بعدها، تحوّل الفايسبوك إلى ساحة احتفاء متأخر بكاتب دخل فضاء الكتابة ممتلكاً أكثر من حياة. كانت خطواته الأولى مدفوعة بالهوى اليساري الذي كان يسكنه ثم عاد لاحقاً لنقده وتشريحه. انطلق من مجلة «زوايا» الثقافية اللبنانية في عام 2003 وكتب في منابر مصرية عدة كـ«روز اليوسف»، و«آخر ساعة»، وخاض تجربة سكرتير تحرير جريدة «البديل» منذ تأسيسها حتى توقفها عام 2008. السفر إلى فرنسا في مهمّة عمل مؤقتة دفعته لارتكاب إقامة غير شرعية اضطر فيها للاشتغال في أعمال يدوية ليست الكتابة منها، لكنّها كانت تجربة جعلته ينظر في الكتابة من زوايا مختلفة تنطلق من قاعدة الحراك الاجتماعي الحاصل في البيئة الشعبية المصرية. لا يمكن هنا إهمال موضوع الشارع والمجتمع الهامشي كواحدة من أدوات النقد والتفكيك التي اعتمدها درويش لتحليل تلك البيئة، مثال تحالف مشجعي النادي الأهلي الـ«ألتراس» الذي كان يعشقه، وهو التجمع الذي احتوى كتلة الكائنات المقيمة خارج الاهتمام العام رسمياً واجتماعياً، لكنها صنعت فارقاً كبيراً ومؤثراً في «ثورة 25 يناير» وأتقنت مخيّلة هاني التقاطها. اشتغال مختلف ومغاير عن السائد اختاره درويش وبدأه في وقت مبكر من «ثورة يناير» حيث قدّم جملته الخاصة والمركبة القادرة على تقديم مجتمعه وإشكالياته على هيئة صور مُلتقطة من تجاويف الشارع وحفره غير المرئية. اشتغل لسنوات كاتباً اسبوعياً في ملحق «نوافذ» الصادر عن جريدة «المستقبل»، وكتب في ملحق «تيارات» في جريدة «الحياة»، إضافة إلى سرديات مطوّلة تحكي عن المكان الشعبي المصري في مجلة «كلمُن» التي توقفت عن الصدور أخيراً وصولاً إلى الكتابة في موقع «المدن» الالكتروني. بكل هذا الكمّ الكثير من الشغل والتنقّلات والأسفار، كوّن هاني درويش حياته التي ظهرت بوفاته كما لو أنّه قد شربها كلّها. في آخر ليلة له في ألمانيا التي عاد منها إلى القاهرة قبل أيام من رحيله المفاجئ، وضع على الفايسبوك صورة للقمر مكتملاً التقطها من نافذة غرفته الألمانية وكتب تعليقاً: «قمر الوداع»... كأنما أراد القول بأنّ حياته بلغت نقطتها الأخيرة.