محبوكٌ بلينٍ، منضبط دون صرامة. عاقل وعرفاني، معاد للزينة الفائضة وعزوف عن مظاهرها، وشعره، عموماً مجنّد (رابح) في معارك الخسران. تلك المعارك التي لم يعرف توقيتها، ولم تسعفه نهاياتها السريعة في تسمية «رجالاتها» الذين يلهثون، يلهثون فقط بمعارك النصر المؤجل، وقد أعيتهم المكائد، وقد أشرفت على حدود الاتهام الذي لا يدق أجراساً، ولا يستوقف شعراً. سليمان العيسى من موقعٍ آخر، وريث النكبات وشاعرها.
هو من كان يستنهض القيم المتوارثة التي سقطت سهواً بالاكتساب ومُرغت عمداً بوحل المذلة. طاعن في الأمل، يغلق باب التأويل على تفسير واحد يفضي، كما يريد له، إلى بصيص ضوء رخوٍ يتدلى من سقف ظلمته كالمشنوق. إنّه شاعر يغوي الأمل، ويستدرجه ليكون مصيراً، ومن ذعرٍ يحتمي بنوافذه المحطّمة، المشرعة لرياح الغريب التي لا يريد لها أن تقتلعه من جذوره الضاربة في عمق الأرض والتاريخ. سليمان العيسى، ليس حامل رسالة فحسب، بل لديه رغبةٌ دائمة للتأثير في الناس، ولهذا يميل شعره دائماً، إلى معاناة، لأن المعاناة توسع مجاري التعبير. وهاتان الصفتان تصبحان في أحيانٍ كثيرة، معياراً لسلوكه الشعري، فهو يترك في الكثير من شعره، للسجية أمر ترتيب أمورها الشعرية التي تمتلك حيويتها، عندما يكون المناخ العام مواتياً، ليقطف ثمار أصالته ويصبح شعره شعاراً، وتتبدى الصعوبة، عندما لا يتيح الإدراك المباشر للظواهر إمكانية النهوض بالشعار إلى سوية الحالة العامة. وإذ يوازن سليمان العيسى بين المخيّلة والوجدان، ينحاز للثانية ليجعل القضايا شريكاً في قصائده، حتى تستطيع بلوغ وظيفتها التي يحدّد دائماً، بأنها وسيلة لهدفٍ أهم، وهو بذلك يدفع قضية الشعر إلى صفتها القومية، محاولاً على الدوام، إثبات أولوية التعبير، من خلال محموله لا حامله. ولهذا لا يسوّغ المجازفات التي تعوّم المضامين، وهو وإن كان منفتحاً تماماً على الحداثة، يدين الشعر المصاب بمرض الفوضى الذي ينشأ عن إدراك خاطئ لدور الشعر في أمة محتلةٍ ومنكوبة وموزّعة. سليمان العيسى يكتب ليرتاح يقينه، وهو يقين ثابت، لا تردد فيه ولا ترددات، بأن هذه الأمة ستحقق شروط وجودها الإنساني ولهذا يكثر في شعره من اللوازم الوسيطة التي تقرب الهدف، وتسعى إلى المعاني التي تحث في هذا الاتجاه الذي يقوم لديه، على مواصفات في مقدمها الوضوح والعفوية، والقراءة التي تنصف شعره. ليست قراءة في التكنيك الشعري كونه دراسة في الوسائل، وإنما في الغايات. هو يرى الشعر أداةً جمالية لهدفٍ أعظم، أي أن أهمية الشعر ليست في طريقة قوله، وإنما في ما يقول. في سنواته اللاحقة، تخفّف من بعثيته، إذ لم يسعَ إلى أي منصب، وتحوّل من شاعر فصيل إلى شاعر جماعة بشرية، وكان حلمه، أو رغبته بالأحرى، ألا يُحسب على منطقة ضيّقة في الفكر والسياسة. أراد أن يكون شاعر أمة، وقد خذلته بكل إمكاناتها خذلاناً لا مثيل له.
* شاعر سوري