في الذكرى العشرين لرحيل عازف الترومبت مايلز دايفس (1926 – 1991)، أشرنا في ملف خاص بالمناسبة («الأخبار» 7/6/ 2011) إلى أنّ لآلة الترومبت ثلاثة رجال أساسيين في تاريخ الجاز: لويس أرمسترونغ، ديزي غيلسبي ومايلز. هذه السنة تصادف الذكرى العشرين لرحيل ديزي غيلسبي، لذا كان ضرورياً التوقف عند حياة وفنّ هذه الشخصية الأساسية في تاريخ الموسيقى عموماً، وفي جاز القرن العشرين تحديداً.
أيضاً كما قلنا في الملف المذكور، إنّ لكل اسم في هذا الثلاثي المذكور فرادته ومساهمته الخاصة في الموسيقى، على الرغم من القواسم المشتركة الكثيرة التي تجمعهم (الجاز، الترومبت، التأليف، البشرة السوداء، الكاريزما...). اليوم نستعيد في هذه السطور حياة غيلسبي، ونلقي الضوء على مسيرته الصاخبة، وعلى ميّزاته الموسيقية، كما نقترح عليكم بعض عناوين تسجيلاته المهمة، الكفيلة بالتعرّف إليه على نحو مختصر لكن عميق (راجع الصفحة أدناه).
هو جون بُرْكس غيلسبي. ولد عام 1917 في ساوث كارولاينا في الولايات المتحدة الأميركية. سقط اسمه الأول لمصلحة اسمه الفني «ديزي». أما «بُرْكس»، فهكذا كان يناديه المقربون منه، أمثال تشارلي باركر، في بداياته. كمعظم أبناء جلدته المولودين في النصف الأول من القرن الماضي، اهتم ديزي بموسيقى السود. علاقته الأولى كانت مع البيانو، لكنّه أحبّ وأتقن آلة الترومبت إلى درجة أنه بات رمزاً أساسياً لها. يمكننا بسهولة تعداد عشرات عازفي الترومبت في عالم الجاز، كثيرون منهم من مرتبة الفنانين النجوم، وبعضهم يعد من الأساطير. نقول هذا لنلفت إلى صعوبة أن تبرز لهذه الدرجة في مجال، حيث المنافسة عالية جدا،ً والمنافسون كثر. في الكلاسيك مثلاً، هناك موريس أندريه. لقد كان عازفاً تاريخياً، لكنه لم يواجه منافسة تُذكر. أما أن تحتل إحدى المراتب الثلاث الأولى في العزف على الترومبت في الجاز، فعليك أن تكون استثنائياً... بل خارقاً. ديزي كان هذا الرجل الخارق، وعلى أكثر من مستوى. أولاً، في تقنيات العزف، لم يعرف الجاز ولا غيره من الأنماط، لا قبل ديزي ولا بعده، جملاً بصعوبة ونظافة ما كان يقدّمه هذا الرجل. وهذا لم يكن استعراضاً للمهارات، بل خدمةً للجمال والتعبير. ثانياً، كان ديزي مؤلفاً خطيراً، ترك عشرات الأعمال التي أداها بدايةً ومراراً ثم أصبحت من الكلاسيكيات فباتت تمثل أسساً في برامج أمسيات وتسجيلات موسيقيي الجاز منذ أكثر من نصف قرن. ثالثاً، كان صاحب الترومبت المعقوف موسيقياً مكتملاً، أضاف إلى العزف والتأليف تأسيس وقيادة الفرق الكبيرة والتوزيع الموسيقي.
في الأربعينيات، التقى ديزي غيلسبي لناحية الفكر الموسيقي على الموجة نفسها مع دماغ متقّد آخر هو تشارلي باركر. ربطت بين الاثنين صداقة متينة سببها بالتأكيد التفاهم الفني أولاً، إذ وضعا (إلى جانب آخرين، أبرزهم تيلنيوس مونك) أسس آخر مدرسة في الجاز، أي البي- بوب، أو التيار الذي كان يُسمى «الجاز الحديث» في ذاك الزمان. تعاون الثنائي لسنوات عدة قبل رحيل باركر المبكر. قدّما عشرات الأمسيات الحية في نوادي الجاز الأميركية، وتركا بعض التسجيلات، لكن غيلسبي استمر بعد رفيقه، جامعاً حوله موسيقيين التقاهم على درب الجاز منذ أواسط الخمسينيات حتى رحيله، كما عمل إلى جانب معظم رموز تلك الفترة من كبار الموسيقيين والمغنين وله معهم تسجيلات.
كيف تعرف ديزي إلى غيلسبي؟ إن لم يكن عبر التقاط أسلوبه الموسيقي الخاص، فمن أمريْن شكلييْن: الأول، آلته الفريدة من نوعها وهي ترومبت معقوف البوق (45 درجة) اعتمده منذ 1953 إثر حادث أدى إلى التواء الآلة التي أعجِب ديزي بنبرتها «الجديدة»، فطلب صناعة ترومبت خاصاً به على هذا الشكل! الثاني، خداه اللذان ينتفخان كبالونين في وجهه أثناء العزف. علماً أنّ هاتيْن العلامتيْن الفارقتيْن لم يُعرَف بهما غيلسبي في بداياته. فقد كانت آلته «طبيعية»، وكذلك خداه! لكن الأهم من هذه الشكليات موسيقاه عزفاً وتأليفاً، وكذلك إرثه الإضافي المتمثل في فرقة تحمل اسمه، وتأسست بعد رحيله بخمس سنوات، كما تتألف من موسيقيين، بعضهم عمل معه. هذه الفرقة ما زالت تقدّم تركته الموسيقية، لكنها فقدت بسبب الموت مخضرمين (آخرهم جايمس مودي)، كما استقلت عنها بعض المواهب، وجرى استبدالها بأخرى لا تقل أهمية. نشير إلى أن هذه الفرقة زارت لبنان مرتين، إذ شاركت في «مهرجانات بعلبك الدولية» (2005)، ثم «بيت الدين» (2012).
كما أسلفنا، عازفو الترومبت كثيرون في الجاز، لكنّ ورثة ديزي قليلون، أبرزهم أرتورو ساندوفال، الذي زار لبنان السنة الماضية وجون فاديس. وعندما نقول وراثة، لا نعني أنها تشمل كل شيء! إن توصل عازف ترومبت إلى استخراج أصوات بالسرعة والنظافة المطلوبة للاقتراب من روح غيلسبي، فهذا لا يعني أنّ الجملة الموسيقية بحد ذاتها لها قيمة جمالية. وإذا لم يستطع المرتجل القيام بهذه المهمة الصعبة (الصعوبة والجمال)، فكيف له أن يؤلف أعمالاً بحجم «Night in Tunisia» و «Be-Bop» و «Impromptu» و «Salt Peanut» وغيرها؟




Dear Diz

كما ذكرنا في المقالة الرئيسية، لديزي غيلسبي ورَثة، عملوا معه، تعلّموا منه، وباتوا رموزاً في الجاز عموماً ورسلاً لديزي خصوصاً. أبرز هؤلاء الموسيقي الكوبي أرتورو ساندوفال الذي كان عضواً أساسياً في فرقة صديقه. بعد رحيل الأسطورة، تابع ساندوفال مسيرته. له شطحات مثيرة للاشمئزاز باتجاه الموجة التجارية، وفي المقابل أنجز أخيراً ألبوماً جيداً استعاد فيه كلاسيكيات صديقه وهو بعنوان: Dear Diz. نجد في هذا العمل أهم مؤلفات غيلسبي، بعضها تمّت مقاربتها بتصرّف موفَّق، مثل التغيير في إيقاع المقطوعة الشهيرة التي تحمل اسم مدرسة في الجاز: Be-Bop.