أهملنا مئوية ولادته السنة الماضية. هذه السنة تصادف، لحسن الحظ، الذكرى الثلاثين لرحيله لتتيح لنا فرصة ثانية لتقديم تحية له. إنه المؤلف وقائد الأوركسترا الأوكراني إيغور مركيفيتش (الصورة). في الصفحة ذاتها نستعيد ذكرى قائد أوركسترا آخر هو الروسي يفغيني مرافينسكي، بمساحة يقارب حجمها ضعف هذه السطور. لكن، هذا لا يعني أن مركيفيتش يُصنَّف في الصف الثاني مقابل زميله الروسي في الصف الأول. كلاهما من الصف الأول في مهنتهما، الفارق الوحيد يكمن ربما في ظروفٍ أتاحت لمرافينسكي تكوين هالة كبيرة موسيقية وتاريخية، جعلت منه شخصية استثنائية تتخطى حدود إتقان قواعد قيادة الأوركسترا الكلاسيكية.
إيغور مركيفيتش (1912 _ 1983) هو قائد أوركسترا من أوكرانيا. أي من البلد الذي مدّ الموسيقى الكلاسيكية بعشرات المؤدّين. هو معروف كشخصية موسيقية تتخطى قيادة الأوركسترا، لتشمل اهتماماً آخر هو التأليف. وليس التأليف عنده أقل شأناً من قيادة الأوركسترا، إنما ما أنجزه على هذا الصعيد لم يتخطَّ تسجيلاته لأعمال غيره. مهنة التأليف مارسها العديد من المؤدين، لكن مركيفيتش عُرفت مؤلفاته أكثر من مؤلفات غيره، ونجد لها تسجيلات، معظمها لدى ناشرين مغموري الصيت مثل «ناكسوك» و«ماركو بولو»، بعكس تسجيلاته كقائد أوركسترا التي نجدها عند ناشرين مثل «دويتشيه غراموفون» و«فيليبس». لكن في الواقع، لا يهتم بها سوى من لديه فضول استثنائي في البحث الموسيقي الكلاسيكي، علماً أنه عُرف في بداياته كمؤلف واعد، قبل أن يبرز كقائد أوركسترا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية خصوصاً. لمركيفيتش رؤيته الخاصة كقائد أوركسترا، وتحديداً في الريبرتوار «الجديد» آنذاك. فكان من الذين اهتموا بأعمال المؤلف الروسي الكبير إيغور سترافينسكي. لكن تسجيلاته تضم روائع من الحقب كافة، مثل تعاونه مع عازفة البيانو السويسرية كلارا هاسكل لتسجيل أعمال لموزار من فئة كونشرتو البيانو (رقم 20 و24)، بالإضافة إلى بعض سمفونيات الأخير وأخرى لبيتهوفن وبرامز وتشايكوفسكي وغيرهم. لا يمكن إنصاف أي شخصية بهذا الحجم في بضعة أسطر. هذا ليس سوى تذكير بمركيفيتش، أو مدخل إلى حياة رجلٍ، تخطت إنجازاته حدود الموسيقى لتصل إلى الأدب والفكر، إذ ترك أيضاً كتابات فلسفية وموسيقية، من بينها تحليل معمّق لسمفونيات بيتهوفن.