أسئلة الهجرة والهوية
يصل أستاذ التاريخ المعاصر الدكتور شاهين إلى سنّ التقاعد، عندما يكتشف إصابته بالسرطان. يقرر أن يقيم احتفالاً على شرف حفيدته سلمى في مناسبة عيد ميلادها، فيدعو العديد من الشخصيات العربية المقيمة في أميركا. لكن في النهاية، لا يصل أحد إلى الاحتفال، ولا حتى الحفيدة. هذه باختصار أحداث رواية «عناق عند جسر بروكلين» لعز الدين شكري فشير (1966) الدبلوماسي وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة. دبلوماسي أم أكاديمي؟ لا يسعده كلا اللقبين.

يسعده أكثر كونه روائياً. الكتابة هي الأصل، بينما بقية الأشياء مجرد فروع. يطرح فشير في أعماله العديد من الإشكاليات التي تتعلق بأحوال المهاجرين العرب إلى الولايات المتحدة، وأهمها مسألتا الهوية والتعايش أو الاندماج ضمن منظور إنساني رحب. وفي «عناق عند جسر بروكلين»، لا يلتقي أبطال الرواية. كل فصل يتناول حكاية أحد المدعوين الثمانية من المهاجرين العرب، أو من المنحدرين من أصول عربية. لم يكن الاحتفال ولا الدعوة إلا مناسبة لجلوس المدعوين إلى مائدة السرد، ليفتح لنا كل واحد باب مدينة أميركية جديدة من واشنطن إلى بروكلين، فميامي، وصولاً إلى نيويورك. أحدهم دبلوماسي يلتحق بالأمم المتحدة ويكلف بمهمة في دارفور وينجزها. يرى رصاصاً ينطلق وامرأة تحترق، فيكتب تقريراً عمّا رآه وينتهي الأمر بتقرير إدانة من قبل مجلس الأمن! حينها يشعر بأن جهده ديكوري. الشيخ داود شخصية أخرى ونموذج أفرزته ثقافة تريد تدمير الأخضر واليابس في أوروبا وأميركا. يزور متحفاً يمثل ضحايا برجَي التجارة، تشعر حين تقرأ أنه مسجون بنزعة الحقد. رباب العمري محامية عربية تقيم في أميركا، تفاجأ بإقصائها من الجهة التي تعمل فيها لأسباب لا تتعلق بالكفاءة، بل لأسباب عنصرية. وأخيراً، هناك سلمى التي تتعرض لاعتداء من أربعة شبان أميركيين. تنتهي الرواية وسلمى تنزف على الأرض.

«دار العين» ــ القاهرة





عرب دبي


ناصر عراق فنان تشكيلي، قبل أن يصبح روائياً. ربما انعكس ذلك على روايته «العاطل» التى يحكي فيها قصة شاب مصري لم يجد عملاً في مدينته، فقرر الهجرة إلى دبي لينفتح أمامه عالم من الأحداث والشخصيات. «العاطل» هي الثالثة لعراق بعد «أزمنة من غبار»، و«من فرط الغرام». «العاطل» أيضاً كالرواية المصرية الأخرى المرشحة للجائزة، تتناول «الهجرة» وأوضاع المهاجرين العرب في بلاد الله الواسعة. لكنها في «العاطل» ليست هجرة إلى الغرب باشتباكاته وتعقيداته، وإنما هجرة إلى وطن عربي آخر، أي دبي، تلك المدينة التى تتلاقى فيها شخصيات من جنسيات مختلفة. يرصد الكاتب علاقات هذه الشخصيات، وأحوالها، وإحباطاتها، وعقدها النفسية لتقدّم حسب تعبير الناقد صلاح فضل «رؤية مقطعية لطرف من الجالية المصرية في مدينة دبي في بعض نماذجها من الرجال والنساء، وعلاقتهم المتشابكة مع أبناء الجاليات الأخرى، وأوجاعهم المزمنة في التراوح بين النجاح والإحباط وهم يحملون في قلوبهم ميراث خيبات الماضي الصغيرة وبريق تطلعات المستقبل المضني بآماله ومباهجه». نتعرف في الرواية إلى شخصية صلاح الغندور الخبير بالشعوب وثقافاتها، يحكي لشباب الجالية المصرية رحلته عن كوريا: «من المستحيل أن يكون هناك إنسان سعيد وهو لا يجد عملاً ولا سكناً لائقاً أو تأميناً صحياً أو مدارس صالحة لأبنائه». نتعرف إلى مأساة البطل العاجز جنسياً بسبب قسوة والده الشرطي الذي ضربه بشدة عندما ضبطه في طفولته مع جارته، ما جعله يشعر بالعجز عن الاقتراب من أي امرأة. تتعقد حبكة الرواية ليجد البطل نفسه متهماً بجريمة قتل لفتاة روسية. ويخلص المؤلف إلى أن معاناة المهاجرين سببها القهر السياسي والسلطوي الذي يعانون منه. والحل يكمن في «السعادة» التي لن تأتي إلا عندما تتحول مجتمعاتنا إلى مجتمعات ديموقراطية حقيقية.

«الدار المصرية اللبنانية» ـــ القاهرة




التاريخ إن حكى


كما في أغلب رواياته، يمنح ربيع جابر (1972) بطولة روايته «دروز بلغراد» لشخصية رئيسية، بينما يشتغل السرد وحِيَله وتقنياته في خدمة هذا البطل. هناك شخصيات أخرى طبعاً، لكنها موجودة في سياق تظهير تصرفات البطل وتقلّبات سيرته داخل الرواية. حنا يعقوب، بائع البيض المسيحي، هو بطل الرواية الذي يجد نفسه معتقلاً ومنفياً بدلاً من درزيّ يُفترض أن يُنفى إلى بلغراد مع إخوته الأربعة ضمن مجموعة يزيد عددها على 500 درزي اتُّهموا بجرائم مختلفة أثناء أحداث 1860 في جبل لبنان. إنها بداية مثالية لإثارة فضول القارئ إلى معرفة مصير البطل. بداية مكتوبة برشاقة لغوية سبق أن أدهشنا بها الروائي الذي أنجز 18 رواية خلال العقدين الأخيرين. بداية ستتكفل جملته القصيرة والذكية بإمتاع القارئ ومؤانسته في التفاصيل والأحداث. قد تكون بعض الأحداث غير مقنعة، لكننا لا نستطيع تجاهل الجهد المبذول في مزج التاريخ الحقيقي بالتاريخ المتخيل، وخلق فجوات ملائمة لحضور البطل ومجموعته المنفية داخل هذا المزيج، وإخضاع كل ذلك لمونتاج سردي يجعلنا نحسّ أننا أمام فيلم مشوِّق. هكذا، سنلاحق مصير حنا يعقوب الذي ساقته الأقدار ليعيش باسمٍ آخر وهوية دينية أخرى. تضيع خصوصيته في كتلة السجناء الذين يعيشون في ظروف غير إنسانية موزعة بين سجونٍ بائسة وأعمال شاقة، إضافةً إلى استخدامهم جنوداً في معارك القسم الأوروبي من السلطنة العثمانية. في النهاية، يموت كثيرون، ويتفرق الباقون إثر معركة تحترق فيها القلعة التي تضمّهم. يهرب حنا يعقوب. ينضم إلى قافلة مقدونيّة ذاهبة إلى الحج. يغادر القافلة في دمشق، ومنها إلى بيروت، حيث تنتظره زوجته وابنته منذ 12 عاماً. أخيراً، قد لا تكون «دروز بلغراد» بمستوى رواياته الأخرى، لكن أسلوبه العابر لأعماله يجعل فوز جابر بالجائزة أمراً متوقَّعاً.

«المركز الثقافي العربي» ـــ بيروت





الهويات القاتلة


قُتل نظام بطل رواية «شريد المنازل» لجبور الدويهي (1949) في نهاية الرواية عند أحد الحواجز الأمنية التي ملأت لبنان خلال الحرب الأهلية. كانت تهمته أنّه آمن بالحب وقدم تصوّره الخاص عن الهوية اللبنانية التي تمناها «حرة». عندما يسأله الجندي المتصلب على الحاجز عن اسمه، يحدثه عن عيني عشيقته جنان. بهذه الطاقة على الحب، خلق نظام هويته التي تتيح له الانتقال من بيروت الغربية إلى بيروت الشرقية من دون تعقيدات. كما تتيح له القفز من حضن صباح أمه البيولوجية الى دلال المسيحية أمه بالاختيار. لم يتحمّل مجتمع نظام الطائفي، القائم على الهويات القاتلة، فسحة الأمل التي مثّلها نظام الذي عاش تجربة فريدة في التحول الديني المختار. تحولت شقة نظام المشرعة على البحر الى فضاء للحوار، يجمع ممثلين لتنظيم يساري كان يملك مشروعاً مثالياً للبنان تعددي. أزمة نظام التي وصلت به الى الموت جاءت لأنه ظل «شريد المنزل» غير قادر على الإقامة في مكان. المسلمون لم يعتبروه مسلماً، والمسيحيون لم يحسبوه واحداً منهم. لفظه الجميع وقبله الله. تعطي رواية «شريد المنازل» وجهة نظر في الحرب الأهلية اللبنانية، وهو موضوع استهلكته الرواية اللبنانية. لكن جبور الدويهي الذي طاف حول الموضوع نفسه في روايته «مطر حزيران» يأخذه الى مساحة وجودية ويلبسه لبطل عاشق، يبدو للوهلة الأولى كفتى مدلل. لكنه في العمق يملك طاقة للعطاء تفيض لتغطي لبنان كله جغرافياً وهوية. كتب الدويهي روايته بلغة شعرية، تتجاوز غاية التوثيق. وفي قلب هذه اللغة، صاغ علاقات حب غير تقليدية تقوم كلها على معنى التضحية، بدءاً من علاقات الأسر في طرابلس المفتوحة على البحر، مروراً بتجارب عشق نظام التي انتهت به الى مرسم الفنانة جنان. وفي هذا المرسم علاقة عشق حافلة بالشجن، نتتبع فيها مسيرة الدمعة من الجفن الى القلب. ونرى في مراياها صورة لبنان الذي نحلم.

«دار النهار» ـــ بيروت




موّال الخيبة



جاءت رواية «دمية النار» للكاتب الجزائري بشير مفتي (1969)، محمّلةً ببعض السوداوية في رسم ملامح جيل ما بعد الاستقلال في بلد المليون ونصف المليون شهيد. نحن أمام عمل يرتقي الى مصاف الوثيقة التي تستخدم كشاهد على ما جرى في الجزائر منذ الاستقلال حتى اليوم، بعدما تحوّل الثوار الى سماسرة والمناضلون الى تجار.
شخصية البطل رضا شاوش ليست سوى نموذج عن الثورة الخامدة التي دعا اليها أبناء جيله لتصحيح عثرات الراهن. الرواية نفسها تعتبر امتداداً لتجربة صاحبها التي تتميّز بانغماسها في البوح بمشاعر القلق، وطرح الأسئلة الوجودية التي يميل إليها مفتي باعتباره واحداً من كتّاب جيل التسعينيات في الجزائر، أو جيل «الأزمة» الذي تلا جيل المؤسسين (عبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار)، ثم الجيل الثاني (مرزاق بقطاش والحبيب السايح). إنّه جيل ظهر بعد أحداث 5 أكتوبر 1988 الدامية التي تمخض عنها وقف هيمنة جبهة التحرير الوطني على الساحة السياسية، وبداية التعددية الحزبية. وقد تبلورت تجربة الروائي بصورة أوضح في نهاية التسعينيات مع رواية «احتفالات وجنائز» (1998)، ثم «أرخبيل الذباب» (2000). ورغم مرور أكثر من عشر سنوات على الحرب الأهلية، لم يتخلّص الكاتب ذاته من طيف التساؤلات نفسها التي نجدها في روايتي «بخور السراب» (2005) و«خرائط لشهوة الليل» (2009). ظلّ الشخصية الانفصامية يخيّم على جلّ أعماله. كما أنّ الجزائر العاصمة، بتحولاتها الراهنة، تمثل الفضاء الأكثر حضوراً في أعمال مفتي. ورغم انشغاله بإعادة صياغة جملة من الأسئلة الذاتية والاجتماعية، يحاول بشير مفتي التأكيد على خصوصيته بين روائيي جيله من خلال التنويع ـــــ بين رواية وأخرى ـــــ في أشكال الكتابة، والتركيز على صوت الهامش.

«الدار العربية للعلوم»، بيروت ــ «منشورات الاختلاف»، الجزائر



ابتسم، أنت في تونس


للمرة الثانية، يدخل الكاتب التونسي الحبيب السالمي القائمة القصيرة لـ«بوكر» العربية. روايته «نساء البساتين» تقول الكثير مما نحتاج إلى معرفته كي نفهم ماذا يجري في بلاد الطاهر الحداد اليوم. كتب السالمي روايته قبل ثورة الياسمين، لكنها تساعد في فهم الأسباب التي دفعت محمد البوعزيزي إلى حرق نفسه، كما تعطي مفاتيح للتعاطي مع واقع جديد يهيمن عليه الإسلاميون. يروي العمل قصة مهاجر تونسي في باريس يعود إلى قضاء إجازة مع عائلة أخيه الذي يعيش في أحد أحياء العاصمة. وانطلاقاً من أسرة هذا الأخ، يرصد العائد ما جرى في تونس من تحولات قدمت نمطاً من الاستبداد السياسي ساعد في تفاقم دور الأجهزة الأمنية. في المقابل، تجلت صور المعارضة الدينية كردة فعل على هذا الاستبداد. لكن مقاومة «الإخوانجية»، كما تسميهم الرواية، انحصرت في «التدين الشكلي». وفي المسافة بين الفعل ورد الفعل تهشمت الذات التونسية وتعرضت لشتى حالات الإرباك والتناقض، سواء في تعاطيها مع موروثها أو في أشكال الحداثة المربكة كما يعتقد الراوي. ويرى أنّ تجربة الحبيب بورقيبة كانت واعدة، لكنها أجهضت بسبب الاستبداد.
الرواية التي ترصد الحراك الاجتماعي في البلد الذي أطلق شرارة الربيع العربي تضع صاحبها في صدارة المشهد الروائي التونسي. ولد الحبيب في قرية العلا عام 1951، أصدر ثماني روايات ومجموعتين قصصيّتين، تُرجم عدد منها الى لغات عدة، ويقيم في باريس منذ عام 1985. روايته «روائح ماري كلير» (2008) وصلت أيضاً إلى القائمة القصيرة لـ«بوكر» العربية عام 2009. ما يميز «نساء البساتين» أنّها أول رواية يكتبها عن تونس هنا والآن. تحتفظ ببناء كلاسيكي ورهانها الرئيسي على لغة رائقة تميز صاحبها الذي يقارب التفاصيل اليومية، لكنّه يرفض اعتبارها نصاً من نصوص الحنين الى خطواته الأولى. فهو يرى أنّ الحنين يصدر عن فقد وهو لا يشعر بفقد بلاده.

«دار الآداب» ــ بيروت