يقوم عرض «إثبات العكس» الذي قدمته المخرجة عبير علي وفرقة «المسحراتي» أخيراً على مسرح «روابط» في القاهرة على فكرة البحث في مدى إمكان التعايش مع عشر فرضيات لقراءة حدث واحد. ومع تعدد الفرضيات، تضيع الحقيقة ويصبح التواطؤ سمة مجتمعية مقبولة. اعتمد العرض على ترجمة أعدتها منحة البطراوي لنص السويسري أوليفيه شاشياري (1969). تصنّف نصوص أوليفيه ضمن مسرح القسوة. فرقة «المسحراتي» التقطت هذه السمة في عالمه، وغذت فيها الحس الساخر والنزعة «الغروتيسك». لقد رأت الفرقة أنّ التعامل مع هذه النزعة يكمل مشروعها الذي بدأ قبل سنوات وركّز على مسرحة الحياة اليومية واستلهام ما هو شعبي فيها.
يبدأ العرض بدخول الممثلين وهم يؤدون أغنية شعبية مصرية هي «التعلب فات» بطرق مختلفة تتدرج من الحماس إلى الفتور. أداء الممثلين لنص «الغنوة» يحيل المشاهد إلى تعامل نجوم برامج الـ«توك شو» مع ما يجري حولنا من أحداث، حيث تتحول الحقيقة وجهة نظر.
ومن هذا المشهد الافتتاحي المضاف إلى النص الأصلي، ننتقل إلى حدث يقع في بيت في بلدة هادئة. داخل هذا المنزل شخصية يمنحها اسم: الموضوع. ويظهر هذا الموضوع جالساً في منزله. يقرع بابه ملثمون يبحثون عن صديق له متورط في جريمة لا نعرفها. ومن هنا يقدم العرض عشر فرضيات متخيلة للجريمة وصلة بقية الشخصيات بها. صلة تفضح علاقاتهم الجنسية وصمتهم عن أكاذيب تحيط بهم، بما في ذلك تصورهم عن الوطن والصداقة والتضحية، اذ يمطرنا العرض بتساؤلات عن كيفية التمييز بين الحق والباطل، البريء والمذنب.
في معالجتها الإخراجية، استلهمت عبير علي التي تمرست في المسرح الشعبي، تنظيرات آرتو حول مسرح القسوة وغذت عرضها بعناصر الفرجة الشعبية، وخصوصاً في الاستعراضات التي منحت العرض طابعاً كرنفالياً. لكنها لم تمض تماماً وراء لعبة مسرح الطقس والسحر، ولم تتمرد كلياً على مسرح «العلبة»، ولو أنّها ركزت على الطابع السيكولوجي في محتوى مسرح القسوة الذي قام عليه النص الأصلي.
لجأ الممثلون المتميزون (خصوصاً محمد أبو العز) إلى الأداء القائم على تقنيات كسر الإيهام، ما منح العرض حيوية وأبقاه في مساحة حية من التواصل الحميم مع الجمهور. حتى الألواح الموجودة في عمق المسرح التي اعتمدت على رسوم بدائية لم يستشعر المتلقي دلالاتها إلا في الدقائق الأخيرة من العرض. لقد أظهرت عمق المفارقة بين الدعوة إلى «الشفافية» والمضي وراء فكرة «الحجب» بإصرار. ولعل هذه المفارقة كانت من أذكى مفردات العرض التي تلقاها الجمهور وأحالها على واقعه المصري. وتجلت هذه الإحالة في التعاطي مع أغنية «إحنا وبس» التي قدِّمت مع علم دولة لا نعرفها. لكن أبناءها يتحصنون بمفهوم مغلق عن «هوية ثابتة» وتعصب لا محدود لها.