يبني جيلبير الحاج (1966) مشاريعه مستنداً إلى أبحاث ميدانيّة، وهواجس جماليّة وفكريّة. يسائل الحريّة والهويّة في مواجهة العولمة، والعلاقة بالجغرافيا والتاريخ والسلطة والذاكرة... ويشتغل على ظواهر وحالات من صلب تجربتنا الإنسانيّة الراهنة، انطلاقاً من وسادة، أو مبنى متصدّع في الضاحية دمّرته قنابل الغزاة. يتعاطى مع سهوب صخريّة أو ورود، فيعيد تشكيلها وإحياءها على طريقته كـ«طبيعة صامتة»، يقتفي أثر (ملامح) المدينة التي يعاد تشكّلها، يشتغل على العلاقة بين الأرض والمقياس، يبني صرحاً اسمه غاليري الوجوه...
كما يرصد المتغيّرات السلوكيّة التي جاء بها الهاتف المحمول، أو طقوس التدخين في جحيم الطهرانيّة المعاصرة، أو موضة الغواية عبر الملابس الداخليّة النسائيّة كوسيلة احتجاج على الوصاية القمعيّة والحرب... معرضه الحالي عن برلين في «غاليري كتّانة كونيغ» (بيروت)، يندرج في هذا السياق. Screening Berlin هو عنوان المعرض المستمرّ حتّى نهاية الشهر، المشروع الذي يعود إلى أواسط العقد الماضي، وقد نشرت بعض كليشيهاته في أحد أجزاء السلسلة المميّزة التي يصدرها جيلبير مع جلال توفيق Underexposed Books (٢٠١٠).
يمكن ترجمة العنوان بـ«عرض برلين»، علماً بأن كلمة «سكرينينغ» تراوح هنا بين شاشة وستارة، أي تستبطن أيضاً معنى الحجب، كما يلفت نظرنا الفنّان... لكنّنا نقترح معادلاً عربيّاً مرتبطاً برؤيا العمل وأطروحته: «اكتشف برلين». في هذا الخيار إحالة إلى المقالات والكتب السياحيّة التي تدّعي التعريف بالمدينة، وهي في صلب الخطاب الذي يقوم عليه مشروع جيلبير الحاج. في زمن السياحة المنمّطة التي باتت سلعة قائمة بذاتها، تخضع لمعايير السوق ومنطقها وشروطها، لتلبّي حاجات كتل متكاثرة من الناس، يسأل الفنّان عن معنى اكتشاف مدينة غريبة، عمّا يمكن لـ«سائح» داخل المجموعة أن يراه ـــ أو يفوته ـــ وقد ابتلعه «القطيع»، واستبد به «الدليل» السياحي الذي يختار لك ما ينبغي أن تراه.




أبحر جيلبير على متن أحد تلك المراكب السياحيّة التي تقترح زيارة المدينة عبر المسار النهري، في مكان ما بين الـ«سبري» والـ«هافيل». نتخيّله يقاوم شروحات المرشدة السياحيّة اللطيفة التي تعيد الحكاية نفسها بكل اللغات. يحاول التسلّل بناظريه عبر النافذة الصغيرة التي ثبّت خلفها كاميراه ليرى برلين المحجوبة. كل الكليشيهات مؤطرة بالطريقة نفسها، طرف الستارة وحرف النافذة هما البرواز الفعلي للمشهد. لا مفرّ من أن نستعيد هنا بعض المراجع الجماليّة التي طبعت تجربة جيلبير الحاج. جماعة دولسدورف و«المدرسة الموضوعيّة» في التصوير الفوتوغرافي التي يعتبر ر الثنائي بيرند وهيلا بيكرمن أبرز رموزها. المشاهد المكرّرة برتابة شبه علميّة، المسافة نفسها من الموضوع المواجه والموازي، في إضاءة عاديّة متجانسة بعيدة عن أيّة مؤثرات. هذا المشروع ينتمي إلى «فن الوصف» الذي نسيناه في خضم التجارب الفوتوغرافيّة المعاصرة. تماماً كما كان الزوجان بيكر يوثّقان الصروح والمباني الصناعيّة، في الستينيات، تبعاً لبروتوكول صارم، يعطي للحقل البصري عمقه، ويقسمه إلى مستويات متعاقبة. جيلبير الحاج لا يريد أن يرى برلين، أو بالأحرى لا يريد أن يرى الصورة الرسميّة (السياحيّة) للمدينة. يعلن خروجه على المعنى الجاهز، والكادر المتوقّع. المصادفة، كما عند مالارمييه أو فيتكنشتاين، هي التي تصنع المشهد، وتشكّل كلاً من الكليشيهات المدهشة بعاديّتها وبرودها. المصادفة تتوالد من المسافة التي تتركها الكاميرا (المحايدة) بينها وبين الواقع، ما يتيح للمشاعر أن تتسرّب: نشرد ونحن نراقب زوجين عجوزين، أو أماً تدفع عربة طفلها، أو مجذفي الزورقين النهريين في وضعيّة كوريغرافيّة. تأخذنا الغصّة أمام المباني الصناعيّة، والعمارات المتروكة، والصروح التاريخيّة، والبشر العابرين إلى حياتهم العاديّة، تحت شمس يوم عاديّ. مشروعه المعروض حاليّاً عند نائلة كتانة، عن حدود الرؤيا واحتمالاتها، كما نقول حدود الحريّة وآفاقها. أن تنظر كيفما تشاء إلى العالم، من الزاوية التي تشاء، فعل تأسيسي للحريّة، خطوة ضروريّة في اتجاه وعي الذات والوجود، إعلان قطيعة مع الخطاب الأيديولوجي السائد، ونقض وصايته. قد يبدو الأمر بسيطاً وعاديّاً في الظاهر، كما العادة عند جيلبير الحاج.

Screening Berlin لجيلبير الحاج: حتى 30 أيار (مايو) ـــ «غاليري كتانة كونيغ» (جفينور ـــ بيروت) ـــ للاستعلام: 01/738706



مقاربة «مينيماليّة»

هناك هاجس سوسيولوجي وفلسفي، في صلب أعماله التي قد لا يرى الناظر المتسرّع سوى بعدها الخارجيّ والتقني والعابر. منذ بداياته أواخر التسعينيات، تعامل هذا الفنّان الفوتوغرافي اللبناني مع المشهد العام بصفته أبجديّة تشكيليّة خاصة، وموضوعاً مستقلاً. وسرعان ما غاص في التربة الاجتماعيّة، طارحاً إشكالات معاصرة عند لحظة ثقافيّة محدّدة، من خلال مقاربة «مفهوميّة» مكثّفة، و«مينيماليّة» متقشّفة للعالم. تلك المقاربة تبدو دائماً باردة، ومحايدة، فيما هي تستبطن مؤشرات جوهريّة مرتبطة بالوجود الإنساني. وهذا هو أحد المفاتيح الأساسيّة لفهم تجربة جيلبير الحاج وتذوّقها.