هل ثمة استعصاء بنيوي في النظام السياسي اللبناني يمنع التأسيس لدولة حديثة؟ ما معنى شخصنة السلطة، والى ماذا يرمز «رؤساء شبكات المحاسيب»؟ من هم هؤلاء الذين يفرضون أنفسهم بالقوة؟ هل أزمة النظام طائفية أم سياسية؟ أي دور للمجتمع المدني في استنهاض مشروع الدولة؟ ما هي السلبيات التي أتت من فكرة حياد الجيش؟ وهل يكفي إسقاط النظام الطائفي؟ أي إصلاح اقتصادي يحتاجه لبنان؟ ما مخاطر سياسة اليد المرفوعة والرأسمال الريعي على الاقتصاد؟ يجيب ألبر داغر في كتابه «أزمة بناء الدولة في لبنان» (دار الطليعة) عن هذه الإشكاليات التاريخية، ويعمل على رصد الأزمات الدورية لنظام الحكم في لبنان.
يعالج الأكاديمي اللبناني مسألتين أساسيتين: العجز في بناء الدولة الحديثة ومسؤولية الفئات الحاكمة؛ وهشاشة الاقتصاد اللبناني المفتوح على شتى أنواع الاحتمالات والمخاطر.
يستهل داغر كتابه المؤلف من مجموعة دراسات علمية بتحديد ماهية النظام اللبناني، فيصنفه في خانة «الدولة النيو ــ باتريمونيالية» القائمة على الاستزلام السياسي واستنزاف موارد الدولة لمصلحة النخبة، لا على دولة القانون كما هو سائد في الأنظمة السياسية المعاصرة. ويتساءل: هل يكفي التهجم على البنية الطائفية أم المطلوب تغيير طبيعتها؟ تحت عنوان «أناس يفرضون أنفسهم بالقوة»، يعود الكاتب الى المربع الأول: الطبقة الحاكمة في لبنان تفرض نفسها بقوة العنف السياسي لصون مكانتها الشخصية من خلال الطوائف وعبرها. وهذه الطبقة رهينة الولاءات الخارجية، ولا تتوانى عن تغليب الإقليمي على المحلي والوطني.
هذه الردة الجماعية ضد الدولة ومؤسساتها ليست معطى تاريخياً طارئاً، كما يلحظ داغر. ثمة عجز سياسي بنيوي يصدّ كل التجارب الإصلاحية، لكن الأخطر وسط هذا الضجيج ذاك التلازم الظاهري والباطني بين طبيعة النظام اللبناني وجماعات طائفية تصادر الدولة باسم شعار «لا غالب ولا مغلوب». وأقل ما يقال عن هذا النظام إنّه تفكيكي/ قبلي أدخل لبنان في متاهات فوضى الطوائف التي تنهش بنى الدولة عبر زعمائها، أي أولئك الذين يسميهم الكاتب «رؤساء شبكات المحاسيب».
هل يمكن أن نعد الجيل القادم بدولة القانون؟ قارئ الكتاب يصطدم بحقيقة واحدة مفادها أنّ أزمة بناء الدولة أصبحت حلماً أمام هذا التراكم التاريخي الهائل لأسباب إفشال دولة القانون والمحاسبة. يتحدث الكاتب عن «الديموقراطية بالإنابة» الأقرب إلى ديموقراطية الاستفتاءات، حيث تقتصر العودة الى الشعب على حقبة الانتخابات، وتنتفي منها المساءلة. ويستخدم هذا المصطلح للدلالة على اضمحلال محاسبة الفئات الاجتماعية لمن هم في السلطة، مشيراً الى نوعين من المساءلة: الأفقية والعمودية. الأولى تلتزم بها المؤسسات القضائية والتنفيذية والبرلمانية، والثانية تناط بالمجتمع الأهلي، الذي يُفترض أن يسائل ويحاسب، وكلاهما فقد الدور لمصلحة ما هو طائفي وقبلي واستنسابي.
ينتقد داغر بعض الباحثين من الذين كتبوا عن تاريخ لبنان، وفي مقدمتهم كتاب فريد الخازن «تفكك أوصال الدولة في لبنان: 1967ـــــ 1976» ويصل الى نتيجتين: تقريظ الخازن للنظام السياسي اللبناني، وتغييب العوامل الاجتماعية والاقتصادية في الأزمات التي عرفها لبنان قبل الحرب. ومن جديد، يطرح الكاتب السؤال التالي: كيف تعامل الأكاديميون مع الحروب الأهلية؟ يلحظ داغر أنّ أسوأ النظريات التي تولدت بعد الحرب هي مفهوم الديموقراطية التوافقية التي يتبجح بها زعماء الطوائف. هذا المصطلح العائد الى عالم السياسة الهولندي آرندت ليبهارت، يهدف برأيه الى تشريع سلطة النخب الطوائفية ونخب الحرب.
ثمة نقطة مهمة يكشف عنها صاحب «حول بناء الدولة في لبنان» ألا وهو تحكم أمراء الحرب في معاقل السلطة وعدم محاسبة كل أولئك الذين شاركوا في الحرب الأهلية. حتى إن الشهداء الذين سقطوا، وقعوا في بؤرة النسيان ولم يتذكرهم أحد ولو بنصب تذكاري. تبدو الذاكرة الجمعية اللبنانية ضعيفة جداً رغم الصدمات الجرحية التي أصابت كل الطوائف، لكن هل يؤشر هذا النسيان إلى مصالحة الماضي؟
يتطرق الكاتب الى دور النخب في افتعال النزاع الطائفي والمذهبي كوسيلة للبقاء، كما يعالج ارتباط النخبة السياسية بالخارج، ويستعين بتعبير «النظام الطائفي العميل» للدلالة على ولاءات زعماء الطوائف «لأولياء أمر خارجيين»، ما يجعل لبنان مفتوحاً على حروب داخلية وخارجية بالوكالة.
يعبّر النموذج اللبناني كما يشير داغر عن نمط من «استراتيجيات افتعال النزاع» كما حصل في يوغوسلافيا سابقاً. الطبقة الحاكمة تلجأ الى هذه الاستراتيجية «كرد فعل على محاولات تغير الستاتيكو القائم» بالعنف الطوائفي/ السياسي العابر للحدود. فما هي الدلالات السوسيولوجية لهذا الولاء الخارجي، وكيف ظهرت؟ وما هي الظروف الداخلية التي تنتجها؟ يسعى الكاتب الى تقديم أكثر من وجهة نظر، مموضعاً هذه الظاهرة في سياقها التاريخي والسياسي والمجتمعي، الى أن يصل الى فرضية تحسين المشترك الوطني كحد أدنى بغية توطيد مشاعر الانتماء عند مختلف اللبنانيين. ويرى أن الخيار البديل لكل هذه المعضلات والاستعصاءات هو إصلاح الدولة وتعزيز العروبة.
في الشق الاقتصادي، يعاين صاحب «أية سياسة صناعية للبنان: مقاربة مختلفة لدور الدولة في الاقتصاد» التجربة الاقتصادية في لبنان قبل الاستقلال، وصولاً الى الحكومات المتعاقبة بعد عام 2005، ويوجّه نقده الى النهج الليبرالي الذي تعتمده الدولة تحت رافعة «سياسة اليد المرفوعة». ويستشهد بنظريات ميشال شيحا المنظّر الرئيسي لنظرية عدم تدخل الدولة في الاقتصاد، محدداً أهم المخاطر التي تولدت عن هذا النهج المتبع حتى الآن، ما أدى الى استمرار نمط الرأسمالية الريعية على حساب الرأسماليين الصناعيين.
استعان ألبر داغر بجهود عشرات الباحثين العرب والأجانب في دراسة المجتمع اللبناني وتجربته السياسية والاقتصادية المعاصرة، مما جعل كتابه أقرب الى الدراسات السياسية المقارنة. وبصرف النظر عن أهمية العمل، يشعر القارئ بخيبة أمل، وتلازمه عقده العجز والإحباط نتيجة الأزمات الدورية التي يمر بها لبنان على المستويين السياسي والاقتصادي، ما جعل الجميع يسير على حافة الهاوية... فهل سينجح اللبنانيون في بناء دولة حديثة؟ لا جواب في الأفق القريب، ربما نحتاج في الدرجة الأولى الى رجال دولة قادرين على تطويع الطوائف عبر توسيع المشترك الوطني قبل محاسبة من هم في السلطة كطبقة تفرض نفسها بقوة العنف السياسي والمذهبي.